“الأطعمة فائقة التصنيع”.. مخاطر واسعة على الصحة العامة وتهديدات لنظم الغذاء

قالت سلسلة بحثية جديدة، إن الارتفاع العالمي المتسارع في استهلاك الأطعمة فائقة المعالجة، بات يمثل تهديداً واسعاً للصحة العامة، بينما يؤكد فريق دولي يضم 43 خبيراً أن هذه الظاهرة لم تعد مجرد قضية غذائية، بل مشكلة هيكلية تغير شكل النظم الغذائية حول العالم وتدفع بالمجتمعات نحو مزيد من الأمراض المزمنة. هذه التغيرات تتطلب فهمًا عميقًا وتدخلًا فعالًا لحماية الصحة العامة.
تزايد استهلاك الأطعمة فائقة المعالجة: خطر يهدد الصحة العامة
وتبرز السلسلة البحثية الجديدة، المنشورة في دورية The Lancet، الأدلة العلمية التي تراكمت خلال عقود، وتطالب بتحرك دولي منسق لكبح انتشار هذه المنتجات التي تهيمن عليها شركات ضخمة قادرة على التأثير في الأسواق والسياسات العامة والدراسات العلمية نفسها. لم يعد الأمر يقتصر على مجرد اختيار الأفضل لصحتك، بل يتعلق بنظام غذائي عالمي يتغير بسرعة غير مسبوقة، مما يستدعي وقفة جادة.
وتشير الدراسة إلى أن الأطعمة فائقة المعالجة ليست مجرد أصناف جاهزة للاستهلاك، بل هي منظومة اقتصادية كاملة تعدل العادات الغذائية للبشر. هذه الأطعمة، المصنعة من مكونات صناعية رخيصة مثل الزيوت المهدرجة أو المحليات الصناعية أو البروتينات المعزولة، صممت لرفع أرباح الشركات المنتجة على حساب الجودة الغذائية والصحة العامة. ويشدد الباحثون على أن الأدلة الحالية تظهر بوضوح أن هذه الأغذية تزيح الوجبات التقليدية وتضعف علاقة الناس بالطعام الطازج، الأمر الذي ينعكس في ارتفاع معدلات الأمراض المزمنة.
ما هي الأطعمة فائقة المعالجة؟
تتميز الأطعمة فائقة المعالجة بأنها خضعت لمعالجة صناعية مكثفة، وغالباً ما تحتوي على مكونات غير موجودة في المطبخ التقليدي. تتضمن هذه المكونات مواد مثل النكهات الصناعية، والألوان، والمحليات الصناعية، ومثبتات الطعم، ومواد حافظة، ومحسنات الطعم. من الأمثلة الشائعة لهذه الأطعمة: الوجبات الجاهزة، رقائق البطاطس، المشروبات الغازية، الحلويات المعبأة، والنقانق. علاوة على ذلك، تتميز هذه الأطعمة بارتفاع نسب السكر والملح والدهون غير الصحية فيها، مما يجعلها عالية السعرات الحرارية وقليلة القيمة الغذائية.
انتشار الأطعمة فائقة المعالجة عالميًا: أرقام مقلقة
وتعرض الدراسة مقارنة لافتة لنسبة مساهمة الأطعمة فائقة التصنيع في السعرات الغذائية في مختلف البلدان، ففي إسبانيا، ارتفعت هذه النسبة من 11% إلى 32% خلال ثلاثة عقود، وفي الصين تضاعفت من 4% إلى 10%. أما في المكسيك والبرازيل فارتفعت من 10% إلى 23% خلال أربعة عقود، بينما استمرت الولايات المتحدة وبريطانيا في مستويات تتجاوز 50% منذ عشرين عاماً.
وتزامنت هذه الزيادة الحادة مع تغيرات غذائية واضحة، أبرزها الإفراط في استهلاك السكر والدهون المشبعة، وتراجع الألياف والبروتينات المفيدة، وارتفاع التعرض للمواد المضافة والمواد الكيميائية المرتبطة بالتصنيع. هذه التحولات ليست صحية وتهدد مستقبل الأجيال القادمة.
العلاقة بين الأطعمة فائقة المعالجة والأمراض المزمنة
وتستعرض سلسلة الأبحاث، نتائج مراجعة منهجية شملت 104 دراسات طويلة المدى، وجدت 92 دراسة منها، ارتباطاً واضحاً بين استهلاك الأطعمة فائقة المعالجة وازدياد خطر الإصابة بأكثر من 12 حالة صحية، من ضمنها السمنة والسكري من النوع الثاني وأمراض القلب والأوعية والاكتئاب والوفاة المبكرة. هذه النتائج تؤكد بشكل قاطع المخاطر الصحية المرتبطة بهذه الأطعمة.
تؤكد هذه الأدلة على ضرورة اتخاذ إجراءات فورية دون انتظار المزيد من الدراسات، على الرغم من أهمية البحث المستقبلي لفهم آليات الضرر بشكل أدق. فالوقاية خير من العلاج، والتدخل المبكر يمكن أن ينقذ حياة الكثيرين.
نفوذ الشركات وتحديات السياسات العامة
وتتناول الدراسة الجدل العلمي حول التصنيفات المختلفة لتعريف الأطعمة فائقة المعالجة، وتعرض الانتقادات المتعلقة بنقص التجارب السريرية الطويلة أو اختلاف القيم الغذائية بين مجموعات هذه الأطعمة. لكنها تشدد على ضرورة فصل النقد العلمي الرصين عن حملات التشكيك المدفوعة من قبل الشركات الكبرى، التي تسعى – بحسب الباحثين – إلى خلق ضبابية علمية تبطئ استجابة الحكومات.
وتبرز الدراسة كيف تتحكم شركات ضخمة في التحول الغذائي العالمي، وتشكل السياسات العامة. إن وقف هذا المسار يحتاج إلى تدخل حكومي جريء، يشمل فرض قيود على التسويق والملصقات الغذائية والضرائب، بهدف الحد من انتشار هذه المنتجات وتوفير بدائل صحية بأسعار مناسبة.
سياسات واعدة نحو أنظمة غذائية صحية
وتعرض الدراسة مثالاً بارزاً من البرازيل، حيث تمكن برنامج التغذية المدرسية الوطني من إزالة معظم الأطعمة فائقة المعالجة من المدارس، ويهدف للوصول إلى نسبة 90% من الأغذية الطازجة أو قليلة التصنيع بحلول 2026. ويعد هذا الإنجاز نموذجاً يثبت أن السياسات الصارمة قادرة على إحداث تحولات غذائية حقيقية.
وتشدد الدراسة على أن تنظيم الأطعمة فائقة المعالجة يجب أن يترافق مع تحسين وصول الفئات محدودة الدخل إلى الغذاء الصحي، عبر فرض ضرائب على بعض المنتجات الصناعية وتوجيه عائداتها لدعم أسعار الطعام الطازج. يجب أن يكون الغذاء الصحي حقًا للجميع، بغض النظر عن مستواهم الاجتماعي والاقتصادي.
نحو مستقبل غذائي صحي ومستدام
وتدعو السلسلة البحثية إلى بناء استجابة صحية عالمية شبيهة بتلك التي واجهت صناعة التبغ، عبر حماية السياسات من تدخل الشركات، ومنع ارتباط المؤسسات الصحية بمصالح هذه الشركات، وإنشاء شبكة عالمية للدفاع عن حقوق المستهلكين في غذاء صحي. إن المواجهة تتطلب رؤية جديدة للنظم الغذائية تعيد توزيع القوة لصالح المجتمعات المحلية وتعيد الاعتبار للأطعمة التقليدية والثقافات الغذائية.
وتختتم السلسلة بالتأكيد على أن العالم يعيش اليوم تحولاً غذائياً عميقاً يتسم بسيطرة المنتجات فائقة التصنيع على خيارات الغذاء اليومية، مما يرفع معدلات السمنة والسكري والأمراض النفسية. ويرى المؤلف المشارك أن “الطريق مختلف وممكن: عبر أنظمة غذائية منظمة بصرامة، ومجتمعات تتحرك، ودول توفر غذاءً صحياً ميسوراً للجميع”. لذا، من الضروري نشر الوعي حول مخاطر الأطعمة فائقة المعالجة وتشجيع تبني أنماط غذائية صحية ومستدامة.











