اخبار الكويت

أصوات تشيد الذاكرة شهادات لم تر النور

يوسف غانم

«أصوات تشيد الذاكرة»، كتاب الباحث والروائي عبدالوهاب محمد الحمادي صادر عن مركز البحوث والدراسات الكويتية، الطبعة الثانية، جمع فيه شهادات لم تر النور منذ ثلاثة عقود، جاءت ممن بقوا تحت الاحتلال وبعضها ممن خرج اتقاء المطاردة والقتل والاغتصاب والعذاب.. كتبوا بدموعهم ودمائهم على الورق قصة عائلة تشردت أو عم قتل، أو ابن خال أسر، أو أخت فقدت.

معظم من كتب في مشروع «سجل التحدي» الذي أعده مركز البحوث كاستبيان شكل المرجع للمؤلف، قد دون اسمه، وآخرون تركوا محل الاسم فارغا. بات الألم المكتوب على الورق مجهول الاسم، لكنه ألم يروي زمانا أسود بلون سماء حرائق النفط.

وجاء تصدير الكتاب للدكتور عبدالله يوسف الغنيم، إذ يقول: بعد تحرير الكويت من الاحتلال الغاشم، اتخذ مجلس الوزراء الكويتي قرارا بإنشاء مركز يعنى بتوثيق جرائم الغزو العراقي، تحت اسم «المركز الوطني لوثائق العدوان العراقي»، وقد قام المركز بمجموعة من الأعمال لتحقيق الأهداف المرجوة كجمع الوثائق العراقية التي تركها الجيش العراقي في الكويت إثر هزيمته وبدء تصنيفها ودراستها، وإجراء مقابلات مع وزراء ومسؤولين ومع أبناء الكويت الصامدين الذين كانت لهم نشاطات وخدمات داخل الكويت، وجمع ما كتب في المجلات والصحف العالمية من مقالات وأخبار عن أحداث الغزو.

ومن أهم ما نفذه مركز البحوث والدراسات الكويتية في ثوبه الجديد بعد عام 1992 سبيل توثيق مجريات الحياة اليومية وحوادثها في الكويت أثناء الاحتلال العراقي مشروع «سجل التحدي»، وهو بمنزلة استبيان يتألف من أكثر من 200 سؤال، وخلال عرضه على عدد من المحكمين، وتطبيقه على عينة استطلاعية، تم توزيعه على 30 ألف مواطن. وتم تحصيل نحو 20 ألف إجابة شكلت مصدرا مهما عن حياة الكويتيين اليومية والحوادث التي تعرضوا لها أو شاهدوها خلال فترة الاحتلال.

ويضيف د.الغنيم: ربما كانت تلك السجلات تنتظر من يستطيع أن ينظر فيها بوعي، وأن يقدم من خلالها صورة موثقة متكاملة لأحداث تلك الفترة التي عاشها شعب الكويت، وتعرُّض أبنائه خلالها لعدوان وحشي غادر، حاول طمس هوية وطنهم وتدمير بنيته الأساسية وإنجازاته الحضارية، فمنحه الله القدرة على المقاومة والصمود إلى أن تحقق بحمد الله النصر المبين للوطن.

وقد تصدى لهذه المهمة الكبيرة الباحث الجاد الأستاذ الروائي عبدالوهاب الحمادي، وقام بسبر أغوار ذلك الأرشيف بكل اقتدار، فله خالص الشكر والتقدير لما بذله على مدى شهور عديدة من جهد كبير أثمر عملا موثقا متكامل الأبعاد، متقن السبك، سيبقى على مر الزمان شاهد عيان على تلك الفترة المريرة من تاريخ الكويت، صيانة لوعي الأجيال القادمة، ونبراسا ينير الطريق أمام رجال المستقبل في مسيرة وطنهم العزيز.

وفي البدء يقول الروائي عبدالوهاب الحمادي: مثل صناديق تكتشف في مخزن مهجور، وينفض عنها الغبار، وعندما تتاح تكون ممتلئة بالنفائس، جاءت هذه الكراريس.

شاهدت أفلاما وقرأت قصصا عن رسالة في زجاجة تتناقلها الأمواج، وعبرت البحار حتى بلغت يد قارئ، أو آلة زمن تنقل أحدهم إلى زمن ماض يراه ويسير في أروقته، معيدة رسم تفاصيله بدقة، هذه الكراريس باتت كل ذلك بالنسبة لي، كانت الصناديق الكرتونية كهفا يشبه كهوف قصص ألف ليلة وليلة، ما قصتها؟

ويوضح الحمادي أنه بعد انقشاع الاحتلال العراقي عام 1991 كانت الكويت تلملم جراحاتها، دخان حرائق النفط بات سماء سوداء، والنفوس مشحونة بالغضب والخوف ونشوة استعادة الأرض.

انبثقت فكرة توثيق التاريخ الشفهي لتجربة صمود الكويتيين أثناء الاحتلال العراقي، من بعض موجهي وزارة التربية، مرروها لمن ترك الوزارة آنذاك للتو، أ.د.عبدالله يوسف الغنيم الذي كان رئيس مركز البحوث والدراسات الكويتية، لأنه أدرك أهمية اقتناص اللحظة والقبض على الذاكرة وتقييدها.

وبوشر بتصميم أسئلة انتخبت بعناية ومنهجية، تحاول قدر الإمكان الإفلات من أسر عاطفة اللحظة، وتستقصي تفاصيل ذكريات ذلك الزمن. صدرت في كراسات عن مركز البحوث والدراسات بإشراف د.الغنيم، تحتوي كل واحدة منها على 68 صفحة و216 سؤالا، ووضع للكراسة عنوان «سجل التحدي – توثيق الحياة اليومية وحوادثها في الكويت أثناء الاحتلال العراقي الغادر».

وأعدت الكراريس بطريقة تحاكي الطريقة العملية التي تمزج بين الكمي والنوعي، مزجت بين أسئلة تحتوي على إجابات يختار منها المرء ما شاء وأسئلة يجيب عنها كتابة.

ويوضح الحمادي أنه اطلع على تجربة الأديبة البيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش وأعمالها التي حازت جائزة نوبل للآداب عنها، فوجد نوعا مثيرا من الأدب يعتمد على شهادات الناس ومقابلات تجريها مع ضحايا الحروب ممن عاصروا أزمنة عصيبة، ثم تكتبها بطريقتها دامجة الشهادات بأسلوبها الصحافي.

ويقول الحمادي: وبعد أن عرضت علي هذه الشهادات قبلتها، وكان السؤال: هل يمكن أن أجعل الصوت الكويتي عابرا للقارئ المحلي والعربي؟ صوت أولئك الذين اكتووا بنار الاحتلال، من فقدوا وما فقدوا؟

وشعرت بأن أمامي تحديا بأن أستنطق إجابات كتبت قبل عقود، مستعينا بما أتاحته لي الاتصالات ووسائل البحث والكتب التي صدرت تتحدث عن الاحتلال العراقي للكويت.

وصفحة إثر صفحة، أبصرت زمان الاحتلال الأغبر، عبر عيون ومشاعر وأحاسيس رجال ونساء وأطفال وكبار سن، طلبة، مدرسين، موظفين، متقاعدين، رجال شرطة وجيش، كلهم تعرضوا لذلك الخميس الأسود، باغتهم مثل قطار ليل غادر هرس أرواحهم، تاركا فيها ندوبا لا تزول.. كلهم عاشوا ذلك الزمن الذي بمقاييس البشر سبعة أشهر، لكنها في مقاييس المشاعر الإنسانية سبعة قرون أو تزيد.

ويتنقل المؤلف بنا بين مناطق الكويت ليأخذنا بجولة في كهف الذاكرة الذي سمي «سجل التحدي»، نعم فكتابات «سجل التحدي» التي استطاع الحمادي أن يضمنها في 225 عنوانا وشهادة وزعها على 400 صفحة في كتابه «أصوات تشيد الذاكرة» تعيد تعريفنا نحن وتعيد تعريف الوطن، وتوحدنا حول تلك الشجرة التي أظلتنا منذ درجنا على هذه الأرض.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى