حرب أوكرانيا تختبر صلابة وحدة الـ «ناتو»
دخلت حرب أوكرانيا عامها الثاني الآن بعد عام شهد إعلان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي نفسه أن روسيا تسيطر على 20% من الأراضي الأوكرانية، وقد أظهرت أوكرانيا إلى حد كبير صموداً لم يتوقعه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وربما كثير من المحللين. وساعد في ذلك الدعم الذي تلقته أوكرانيا من مختلف المصادر، خصوصاً دول حلف شمال الأطلسي (ناتو) الذي شهد وحدة غير مسبوقة في صفوفه، لكن مع طول أمد الحرب يدور تساؤل حول مدى إمكانية الحفاظ على هذه الوحدة.
وفي تحليل نشرته مجلة «ناشيونال إنتريست الأميركية» يقول جيورجيو كافايرو الرئيس التنفيذي لشركة «غلف ستيت أناليتكس»، وهي شركة استشارية للمخاطر الجيوسياسية مقرها واشنطن، وزميل مساعد بمركز أبحاث أميركان سيكيورتي بروجيكت، وأليسا بافيا المديرة المشاركة لبرنامج شمال إفريقيا في مركز رفيق الحريري وبرامج الشرق الأوسط بالمجلس الأطلسي، إنه قبل أن تهاجم روسيا أوكرانيا قبل عام من الآن كان الناتو يعاني الانقسام. وفي عام 2019 حذر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من أن الحلف «أصبح ميتاً دماغياً». وأدى حديث الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب مع صحيفة «نيويورك تايمز» عام 2016 عندما كان مرشحاً للرئاسة الأميركية عن عدم حماية واشنطن لدول البلطيق في الناتو من أي عدوان روسي محتمل لأنها لا «تسدد فواتيرها» إلى إزعاج حلفاء أميركا الأوروبيين.
شريك مهتز
ويضيف الباحثان أنه لسنوات كثيرة انتقدت دول مختلفة أعضاء في الناتو ألمانيا وإيطاليا لأنه تربطهما علاقات ودية للغاية مع روسيا، حيث وصف البعض ألمانيا بأنها «شريك مهتز في الحلف» و«مستغل»، كما أن المستويات العليا من الخلاف بين اليونان وتركيا فاقمت التوترات داخل الحلف.
ويوضح الباحثان أن أحد الأخطاء الاستراتيجية الكثيرة التي ارتكبها فلاديمير بوتين في إعداده للحرب يتمثل في سوء تقييمه لقدرة الناتو وإرادته للاتحاد وراء حكومة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. ومع ذلك لم يكن بوتين أحمق بالنسبة لهذا الخطأ في التقدير، فبعد أن ضمت روسيا بصورة غير مشروعة شبه جزيرة القرم، وجزءاً كبيراً من دونباس عام 2014، كانت ألمانيا وغيرها من دول الناتو مهتمة بشراء الغاز الطبيعي الروسي أكثر من اهتمامها بمواجهة موسكو في ما يتعلق بشرق أوكرانيا.
وفي ظل هذا الأمر والانقسامات داخل الناتو سالفة الذكر، كان لدى الكرملين سبب معقول لافتراض أن برلين وغيرها من العواصم الأوروبية ستقاوم دعوات كييف للحصول على دعم عسكري كبير وتمتنع عن فرض عقوبات صارمة ضد روسيا.
الناتو متحد
وبعد عام من هجوم روسيا العلني، مازالت وحدة الناتو محكمة إلى حد ما في معظمها. وتقول باولا دوبريانسكي، وهي دبلوماسية أميركية سابقة وخبيرة في شؤون الأمن القومي: «الناتو متحد بالنسبة لعدد من القضايا الرئيسة، فهناك إجماع أساسي بين الأعضاء بالنسبة لخطورة التهديد الصادر من موسكو وكذلك الإيمان بأنه إذا لم تنتصر أوكرانيا بشكل حاسم، فسيتضرر الأمن الأوروبي والعالمي بدرجة كبيرة».
ويضيف الباحثان أنه طوال العام الماضي زودت دول الحلف كييف بالدعم العسكري والاقتصادي والإنساني بما يبلغ نحو 80 مليار دولار، والأغلبية العظمى من الدعم كانت من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. وعلى الرغم من أن المساعدات العسكرية لأوكرانيا لم تكن بالقدر الذي كانت ترغبه بعض دول الحلف، مثل بولندا ودول البلطيق، لبى الحلف معظم احتياجات كييف.
ومما أصاب بوتين بخيبة الأمل العقوبات الأوروبية التي لم يسبق لها مثيل، و«الثورة» في التمويل العسكري، وسياسة الطاقة في ألمانيا، و«طلاق» إيطاليا من روسيا، وإمدادات تركيا لكييف بالطائرات المسيرة، وغير ذلك من التصرفات المهمة التي أوضحت إصرار الناتو على بلوغ أعلى مستويات تلاحمه في فترة ما بعد الحرب الباردة.
وعلى أي حال يمكن القول إن وحدة الناتو ليست محكمة بدرجة كبيرة، فالمجر على سبيل المثال يتم اتهامها بعرقلة وحدة الحلف، لخدمة مصالحها في الحفاظ على علاقات ثنائية إيجابية مع موسكو.
كما أن قرار تركيا عدم فرض عقوبات على روسيا مع زيادة تجارتها الثنائية مع موسكو بشكل كبير، يوضح أيضاً حقيقة أنه ليس كل أعضاء الناتو يتخذون الموقف نفسه تجاه حرب أوكرانيا. وهناك أيضاً الجدل حول انضمام السويد وفنلندا للناتو، وهو ما أجج توتراً كبيراً بين أنقرة والعواصم الغربية المختلفة.
وعلى نطاق أوسع، قام النشطاء والمحتجون في الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وإيطاليا، وجمهورية التشيك وغيرهم من دول الناتو، والذين يشعرون بالقلق إزاء احتمال اندلاع حرب نووية، والذين أرهقتهم متاعب الحرب وسط فترة من أزمات الطاقة العالمية والتضخم، بتنظيم تظاهرات تدعو إلى وقف شحنات الأسلحة إلى أوكرانيا.
خلافات العام الثاني للحرب
ومع دخول حرب أوكرانيا عامها الثاني، تواجه الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي وشعوبها خلافاً حول المدى الذي ينبغي أن يصلوا إليه في تحمل المخاطر، وبذل التضحيات من أجل تحقيق تحرير كامل لأراضي أوكرانيا، بما في ذلك شبه جزيرة القرم. ورغم أن حكومة زيلينسكي ووجود أوكرانيا كدولة مستقلة كانا على المحك بعد فترة قصيرة من هجوم العام الماضي، فإن الوضع ليس كذلك الآن، فالحرب الآن تتعلق بجزء صغير نسبياً من الأراضي الأوكرانية بالقرب من الحدود الروسية. وعلى هذا الأساس ترى الدول الأوروبية عموماً أن المخاطر الكامنة في حرب أوكرانيا أقل كثيراً مقارنة بعام مضى.
ويوضح كافايرو وبافيا، أن مدير برنامج أوراسيا في معهد كوينسي للإدارة المسؤولة للدول، أناتول لايفين، يرى أن احتمالات استمرار وحدة الناتو ضد العدوان الروسي تعتمد على أربعة عوامل: «حالة الاقتصاد الأوروبي، ومخاطر التصعيد إلى حرب نووية، واحتمال فقدان الإيمان بتحقيق انتصار أوكراني نهائي، وإذا ما عرضت روسيا نفسها وقف إطلاق النار. وأي من هذه العوامل أو كلها يمكن أن يزيد الضغط للتوصل لتسوية سلمية».
سياسة أميركا الداخلية
ويشير كافايرو وبافيا إلى أن السياسة الداخلية الأميركية قد تحدد في نهاية المطاف وحدة الناتو. ويقول أندريو ايه – ميشتا، عميد كلية الدراسات الدولية والأمنية في مركز جورج سي. مارشال الأوروبي للدراسات الأمنية، إنه «إذا ما قطعت الولايات المتحدة مساعداتها لأوكرانيا فإنها لن تستطيع مواصلة دفاعها في مواجهة روسيا طويلاً، بغض النظر عما ستفعله الدول الأوروبية أعضاء الناتو، وغيرها من الدول الداعمة لأوكرانيا.
وفي ظل احتمال تولي سياسي جمهوري الرئاسة الأميركية في يناير 2025 وقيامه بخفض دعم واشنطن لأوكرانيا (أو على الأقل وضع قيود عليه)، سيكون الوضع خطيراً بالنسبة لأوكرانيا.
ويقول لايفين إن تضامن غرب أوروبا مع الولايات المتحدة يرجع إلى حد ما لحقيقة أن هناك إدارة ديمقراطية فيها، وإذا ما فاز الجمهوريون وخصوصاً دونالد ترامب بطبيعة الحال في انتخابات 2024، فإن هذا سيؤدي إلى ضعف وحدة الناتو، وإلى المزيد من التصرفات المستقلة من جانب فرنسا وألمانيا.
وقد يكون تردد ألمانيا وإيطاليا في بعض الأوقات بالنسبة لتقديم الدعم ضاراً تماماً بالنسبة لوحدة الناتو وراء أوكرانيا، إذا ما تحولت الحرب إلى حرب استنزاف. ومازال كثير من الخبراء يفكرون في مسألة المدة التي سيستطيع المسؤولون فيها في برلين وروما مواصلة عدم إغضاب الناخبين، خصوصاً في ضوء فاعلية روسيا في استغلال هذه الانقسامات لمصلحتها، فروسيا معروفة بتاريخها الطويل والناجح في التدخل في السياسات الداخلية والانتخابات في الدول التي ترغب في أن تكون في منطقة نفوذها.
العقوبات الأوروبية، و«الثورة» في التمويل العسكري وسياسة الطاقة في ألمانيا، و«طلاق» إيطاليا من روسيا، وإمدادات تركيا لكييف بالطائرات المسيرة، عوامل أصابت بوتين بخيبة الأمل.
طوال العام الماضي، زودت دول الحلف كييف بالدعم العسكري والاقتصادي والإنساني بما يبلغ نحو 80 مليار دولار، والأغلبية العظمى من الدعم كانت من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.