الأميركيون يرون حرب أوكرانيا حاسمة حول مستقبل البشرية
بينما تحتدم الحرب في أوكرانيا، يسود الهدوء على الجبهة الداخلية في الولايات المتحدة، إذ إن الأميركيين تقبلوا الرواية الرسمية. ولم يسبق أن قام أحد الأفلام الغربية برسم خطوط الخير مقابل خطوط الشر بهذا الوضوح، أو بهذه الفظاظة. ويصرّ البيت الأبيض، والكونغرس الأميركي، والصحافة على أن أوكرانيا هي الضحية البريئة لعدوان غير مبرر، وأن القوات الروسية ستهدّد جميع الأراضي الأوروبية، إذا لم يتم إيقافها عند حدها، وأنه يتعين على الولايات المتحدة أن تقف إلى جانب أوكرانيا «مهما كلف الأمر» لضمان انتصارها.
والمستحيل هو الخروج عن هذا الإجماع. وحتى أثناء التحضير من أجل غزو العراق عام 2003، قلة من الأصوات طالبت بضبط النفس. وبالنظر إلى أننا اندمجنا كلياً في حرب أوكرانيا، فحتى مثل هذه الأصوات لا نسمعها إلا ما ندر.
فكرة صوفية
وفي هذه الأيام، إذا وصف أي شخص جميع الأطراف الداعمة لأوكرانيا بأنها مذنبة، أو حتى إذا قال إنه يتوجب على الولايات المتحدة وقف إرسال الأسلحة المتطورة إلى منطقة تشتعل فيها الحرب، أو تساءل عما إذا كان لنا أي مصلحة حيوية في نتيجة هذا الصراع، سيعتبر ذلك نوعاً من «الهرطقة»، أو حتى الخيانة. وأدت منطقة حظر الطيران الفكري إلى خنق أي نقاش عقلاني بشأن أوكرانيا.
وأصبحت أوكرانيا في أروقة السلطة السياسية في واشنطن، عبارة عن فكرة صوفية تقريباً. وهي ليست منطقة جغرافية بقدر ما هي مستوى كوني تندلع فيها حرب حاسمة، حول مستقبل البشرية. ويُنظر إلى الحرب باعتبارها فرصة مجيدة للولايات المتحدة لتدمير روسيا، وكي تظهر أنه على الرغم من أن توازن قوى العالم قد يتغير، فإننا لانزال نحكم.
وكان انفجار الحب المتأجج للرئيس الأوكراني، فلوديمير زيلينسكي، انتصاراً لحملة إعلامية لا يمكن مقاومتها. وتم تقديمه باعتباره بطل العالم الجديد المدافع عن الحرية، وبين عشية وضحاها، أصبحت صوره معلقة في مواقع الإنترنت والمتاجر.
التفوق الأخلاقي
في المقابل، كان هناك صورة كاريكاتورية أخرى للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، تصوره وكأنه يمثل كل الشرور والصفات المنحلة. وهو يحقق حاجتنا لتركيز الكراهية ليس على دولة، أو حركة، أو فكرة، وإنما على فرد. ولسنوات عدة، كشفنا عن تفوقنا الأخلاقي على أعداء ملوّنين مثل الرئيس الليبي معمر القذافي، والكوبي فيدل كاسترو، والعراقي صدام حسين. ويأتي بوتين مناسباً تماماً في هذه المجموعة. ويبدو أن وجود مثل هذا العدو الشرير الكاريكاتوري مطمئناً تماماً، كما هو وجود القديس زيلينسكي كحليف.
وبعد اندلاع الحرب في أوكرانيا العام الماضي، صوت الكونغرس الأميركي على تقديم مساعدات بقيمة 40 مليار دولار لأوكرانيا. الأمر الذي أثار الدهشة ليس لحجم المساعدات، وإنما لحقيقة أن جميع الديمقراطيين صوتوا لها أيضاً. وعارضها 11سناتوراً فقط و57عضواً في مجلس النواب، جميعهم من الجمهوريين. وصفق الإعلام لهم.
الولايات المتحدة ليست استثناءً
ليست هناك دولة تشارك في الحرب، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، تشجع النقاش حول ما إذا كانت الحرب فكرة جيدة. والولايات المتحدة ليست استثناءً. وكان الرئيسان الأميركيان السابقان آبراهام لينكولن، وإدوارد ويلسون، قد سجنا كل من انتقد الحروب التي قاما بها. وتمت محاكمة منتقدي حرب فيتنام.
ويمكن القول إن الحرب الباردة كانت أقوى رواية متطورة في التاريخ الحديث. وظل الأميركيون يصدقون ما كان يقال لهم، بأنهم مهددون من قبل عدو يمكن أن يهاجمهم في أي لحظة، ويدمر الولايات المتحدة وينهي أي أمل بحياة ذات معنى على الأرض. وهذا العدو موجود في موسكو.
وحش يتنافس مع العم سام الوسيم
وكان الأميركيون معتادين على رؤية روسيا بأنها تجسيد «للآخر» وهي القوة البربرية التي تهدد الحضارة. وقام أحد رسامي الكاريكاتور الأميركيين بتصوير روسيا عام 1863 بأنها وحش يتنافس مع العم سام الوسيم، للسيطرة على العالم. والشعب الأميركي تهيأ بسهولة لكراهية أي دولة يطلب منه كراهيتها.
وربما يمكن مسامحة السياسيين في واشنطن لقفزهم إلى طريق حرب أوكرانيا، لأنهم يعتقدون أن الناخبين لن يعاقبوهم، وأن شركات صنع السلاح ستكافئهم بسخاء، كما أن الإعلام سيكون مسامحاً أكثر.
وبالطبع فإن معظم المراسلين الحربيين يعملون في «صفنا» ونقرأ الكثير من القصص عن وحشية الروس. ولكن انعدام التوازن في التغطية يجعلنا نعتقد أن الجيش الأوكراني، لم يرتكب أي جرائم حرب. وعندما نشرت منظمة العفو الدولية تقريراً يتحدث عن استخدام الجيش الأوكراني لدروع بشرية في المعركة، لقي ذلك غضباً كبيراً وانتقادات واسعة. والرسالة هنا واضحة: «العدل من جانب واحد، ولهذا يجب على التغطية في الميدان أن تعكس ذلك».
مهمة الصحافة
ويبدو أن العديد الذين يكتبون عن هذا الصراع يعتقدون كما كان يعتقد أسلافهم خلال الحرب الباردة، أن الحكومة الأميركية هي فريقه، وأن الصحافة تلعب دوراً لضمان انتصار فريقنا. وتعتبر وجهة النظر هذه بمثابة الموت للصحافة، لأن الصحافيين يجب أن يكونوا حياديين دون الميول إلى أي طرف. إذ إن مهمة الصحافة التحقق من راوية الحكومة وليس تضخيمها دون تفكير. وهذا هو الفرق بين الصحافة والعلاقات العامة.
وبالنسبة للعديد من الصحافيين الذين غطوا العديد من الصراعات بين أطراف مختلفة، كانت الحرب الأوكرانية هي الأكثر صدمة بالنسبة لهم. وقمت أنا بتغطية حرب الساندنيين والكونترا، والصرب والكروات، والأتراك والأكراد. وعلمتني هذه التجارب أنه في الصراعات ليس هناك طرف في الصراع من يحتكر الفضيلة. ولكن في هذه الأيام يقال للأميركيين العكس. ومنذ طفولتنا يتم تعليمنا أن الفضيلة في جانب، والشر في الجانب الآخر.
أكثر دول العالم فساداً
ولكن هل يعتبر منطق بوتين مبرراً أنه لا يريد عدواً عند حدوده؟ هل نسهم في موت الآلاف كي نحقق نصراً سياسياً؟ هل نساعد على تأجيج هذه الحرب؟ كم يبلغ حجم القوات الأوكرانية الداعمة للنازية؟ لماذا لا يهم واشنطن أين يتم رسم حدود دونباس؟ هل فكرنا في سُمعة أوكرانيا باعتبارها واحدة من أكثر دول العالم فساداً، قبل إرسال كميات هائلة من المساعدات؟ هل هذا الصراع هو منازلة عملاقة بين الديمقراطية والاستبداد، أو أنها حرب أوروبية؟
وحتى بينما تغرق الولايات المتحدة أكثر في الحرب الأوكرانية، يبدو أنه ليس من اللائق طرح مثل هذه الأسئلة. إذ إن الإجماع الخانق الذي يربط أحزابنا السياسية بوسائل الإعلام يمنع النقاش الفكري. وباتت إحدى أسوأ نتائج الحرب الأوكرانية بادية للعيان الآن. فقد أدت إلى إغلاق العقل الأميركي.
ستيفن كنزر صحافي وكاتب أميركي
يصرّ البيت الأبيض، والكونغرس الأميركي، والصحافة على أن أوكرانيا هي الضحية البريئة لعدوان غير مبرر، وأن القوات الروسية ستهدّد جميع الأراضي الأوروبية إذا لم يتم إيقافها عند حدّها.
ربما يمكن مسامحة السياسيين في واشنطن لقفزهم إلى طريق حرب أوكرانيا، لأنهم يعتقدون أن الناخبين لن يعاقبوهم، وأن شركات صنع السلاح ستكافئهم بسخاء، كما أن الإعلام سيكون مسامحاً أكثر.