حان الوقت لأوروبا لتتولى زمام الدفاع عن نفسها
قال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في القمة الـ75 لحلف شمال الأطلسي (ناتو): «لقد أعدنا تفعيل تحالفنا، وساعدنا على إعادة تنشيطه، وإعادة تصور تحالفنا حتى نتمكن خلال احتفالنا بمرور 75 عاماً على إنشاء أنجح تحالف دفاعي في التاريخ من التركيز بقوة على المستقبل، وبذل كل ما في وسعنا في وقتنا لضمان استمرار هذا النجاح لمدة 75 عاماً».
ويواجه الغرب عالماً في حالة من الفوضى، فالحرب في أوكرانيا المستمرة هي الحرب الأكثر خطورة على القارة الأوروبية منذ عام 1945، ويجد الغرب بقيادة الولايات المتحدة نفسه في مواجهة مع الصين في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، والحرب في الشرق الأوسط التي تعمل على تقليص النفوذ العالمي للغرب حتى مع تسببها في انقسامات داخل الناتو.
وتغرق السياسة الداخلية على خلفية هذه التحديات غير المسبوقة في نوبة من الاضطرابات المطولة التي قد تخلف عواقب وخيمة على الطريقة التي تتعامل بها الولايات المتحدة مع بقية العالم. وبغض النظر عمن سيفوز في الانتخابات الرئاسية المقبلة، فإن أي شكل من أشكال الانسحاب الأميركي سواء كان تدريجياً وعشوائياً أو مفاجئاً ومتعمداً، من أوروبا نحو آسيا، ليس ممكناً فحسب، وإنما مرجح أيضاً.
حوار مفتوح وصريح
ويدرك حلف الناتو والزعماء الأوروبيون هذه الاحتمالية، ولكن لم يحدث بعد حوار مفتوح وصريح بين الحلفاء حول الانسحاب الأميركي وما يعنيه بالنسبة لأوروبا. والتحوط الأوروبي الوحيد ضد الانسحاب الأميركي الذي هو على الطاولة حالياً هو اقتراح بإضفاء الطابع المؤسسي على المساعدات المقدمة لأوكرانيا بطريقة تجعل من الصعب على الإدارة المستقبلية سحب الدعم لكييف، ولا حتى البدء في معالجة القضايا الأكبر المتعلقة بتقاسم الأعباء، وهياكل القوة، والالتزامات العسكرية الخارجية، وسياسات العضوية التي ستحدد دور أميركا داخل حلف شمال الأطلسي في السنوات والعقود المقبلة.
ولكن ثمة إدراك متزايد بدأ يظهر ببطء على الرغم من محاولات القادة الغربيين الحثيثة تجاهل ذلك، مفاده أن حلف «الناتو» يواجه تحدياً وجودياً أكثر، وببساطة لم يعد هيكله وتركيبته يعكسان الحقائق التي تواجه كلاً من الولايات المتحدة وأوروبا.
وبالطبع فإن المصالح العسكرية عابرة بطبيعتها لأن المصالح الأمنية التي تدعمها متغيرة، ومتغيرة على الدوام، فالتحالفات تزدهر وتنهار على أساس عدد لا يحصى من العوامل الجيوسياسية القصيرة إلى المتوسطة الأجل. وكما كان الحال في أوروبا قبل القرن التاسع عشر، فإن حليف اليوم قد يكون خصم الغد.
ويتميز حلف الناتو بأنه فريد بين التحالفات، لأنه يستند إلى القيم وليس المصالح الجيوسياسية، ولكن هذا التمييز على الرغم من أهميته لا يروي القصة كاملة، فقد نشأ حلف الناتو كمنتج ثانوي للتنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة.
تحقيق الاستقرار
وسعت الولايات المتحدة بحكمة إلى تحقيق الاستقرار في أوروبا المحطمة عسكرياً واقتصادياً بعد الحرب العالمية الثانية كوسيلة لمنع المزيد من التوسع السوفييتي غرباً.
ولهذا عملت الولايات المتحدة كعامل توازن خارجي بمظلتها النووية وقدراتها التقليدية كحصن منيع للدول للأوروبية الأطلسية التي كانت على الخطوط الأمامية لأي محاولات سوفييتية متجددة لتوسيع نفوذها الإقليمي في أوروبا. وعلى الرغم من أن «الناتو» كان دوماً يتبنى خطاب الديمقراطية الليبرالية، فإنه كان يعكس ويلبي المصالح الأمنية لكل من الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين.
وأدى انهيار الاتحاد السوفييتي إلى تغيير هذه الحسابات الأمنية بشكل جذري، وبالطبع فإن روسيا على الرغم من مواردها الضخمة وعدائها للغرب، ليست الاتحاد السوفييتي. وليس لدى موسكو النية ولا القدرة على شن حرب عدوانية ضد حلف شمال الأطلسي في حدوده الحالية، وبالتالي حرمان التحالف من هدفه الدفاعي.
وكانت الفجوة الهائلة التي تفصل حلف شمال الأطلسي عن أوروبا في الموارد والاستثمارات الدفاعية، مع اضطلاع الولايات المتحدة بدور ضخم للغاية في توفير قدرات التحالف، منطقية في سياق الحرب الباردة، ولكنها غير قابلة للدفاع عنها اليوم. لقد حان الوقت منذ فترة طويلة لأوروبا، وهي قوة عظمى في حد ذاتها، لتتولى زمام الدفاع عن نفسها. وهذه ليست حجة لصالح «تقاسم الأعباء»، وهو المفهوم الذي يحدد أعراض مشكلة أكبر في قلب التحالف، بل لابد من إعادة هيكلة العبء نفسه بشكل أساسي ليعكس بشكل أفضل المصالح الأمنية الأميركية والأوروبية.
التحديات الروسية
وفي الواقع فإن القوى الأوروبية الرئيس قادرة على تدبر نفسها أمام التحديات الروسية عبر مزيج من الردع والمشاركة، كما أن خفض الالتزامات التقليدية الأميركية تجاه أوروبا من شأنه أن يخلق حوافز مطلوبة بشدة لكلا الطرفين.
ويمكن أن يؤدي فصل القدرات التقليدية الأميركية والأوروبية وتشجيع قدر أعظم من الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي إلى تقليل العوامل المزعجة التي غذت المواجهة بين روسيا والغرب في المقام الأول، ويعزز أمن أوروبا في حين يحرر الموارد الأميركية لمسارح أخرى.
ويزداد التحالف عبر الأطلسي قوة وتأميناً أمام الاضطرابات السياسية الداخلية إذا خصصت مراكز القوة فيه مواردها وفقاً لأولوياتها المتباينة، بدلاً من التشابك بطرق تقوض الجانبين.
ومن المؤكد أن حلف الناتو غير مناسب كأداة لتعزيز المصالح الأميركية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. والواقع أن الدول الأوروبية في وضع سيئ لا يسمح لها بتعزيز الأهداف الأميركية في هذه المنطقة بشكل هادف حتى لو أرادت ذلك.
توسيع «الناتو»
وأدت الموجات المتعاقبة من التوسع لحلف شمال الأطلسي إلى جعل الأوروبيين أقل أماناً، وتآكل التماسك الداخلي للحلف، وزادت من إجهاد الالتزامات الأمنية الأميركية في الأماكن التي لا تتعرض فيها المصالح الحيوية للولايات المتحدة للخطر. إن سياسة «الباب المفتوح» التي ينتهجها حلف شمال الأطلسي تشكل ركيزة أيديولوجية بحتة أدت إلى زعزعة استقرار الجناح الشرقي لحلف شمال الأطلسي وجزء كبير من منطقة ما بعد الاتحاد السوفييتي دون جلب أي فوائد ملموسة للغرب. ويتعين على زعماء الولايات المتحدة أن يدفعوا باتجاه ترسيم حدود التحالف بشكل دائم، وهو ما كان مستحقاً منذ فترة طويلة.
ولن يتمكن حلف الناتو من العودة إلى ما كان عليه ذات يوم، ولن يكون قادراً على أن يكوّن تحالفاً عسكرياً دفاعياً وتفاعلياً يسهم في استقرار أوروبا من خلال خدمة المصالح الأمنية الملموسة لأعضائه إلا من خلال إغلاق الباب المفتوح. عن «رسبنسبل ستيتكرافت»
• حلف «الناتو» غير مناسب بشكل أساسي كأداة لتعزيز المصالح الأميركية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، والدول الأوروبية في وضع سيئ لا يسمح لها بتعزيز الأهداف الأميركية في هذه المنطقة.
• أي شكل من أشكال الانسحاب الأميركي بغض النظر عمن سيفوز في الانتخابات الرئاسية المقبلة، سواء كان تدريجياً أو عشوائياً، من أوروبا نحو آسيا، ليس ممكناً فحسب، بل مرجح أيضاً.