اخبار الامارات

الفن الاستعراضي يروي قصة الكفاح في موزمبيق

اقتحم صوت ناعم القاعة المظلمة، التي لا يُضيئها سوى عرض لكرة أرضية، تحمل الخطوط العريضة لإفريقيا على الشاشة. ويتساءل الصوت الذي يعلق على المشهد «من يزعم أن الإمبراطوريات لم تعد موجودة الآن؟»، هذا في الوقت الذي كان فيه الراقصون يرتدون الملابس، التي كانت سائدة في فترة الاستعمار الأوروبي، ويظهرون بصورة بطيئة على المسرح، ويحملون ما بدا بأنه صلبان أو سيوف. وكانوا وكأنهم يقرعون على خرائط إفريقيا، ويقسمون القارة وفق رغباتهم.

وعلى مدار الساعة التالية، تحول العرض في مابوتو، عاصمة موزمبيق، إلى رقص محموم من الضرب، وتوجيه اللكمات العنيفة، وحركات المحاربين في المعركة، والتي كانت تتناغم كلها مع إيقاع الطبول المدوية. وأعلن رجل كان يقف ساكناً تماماً في مؤخرة المسرح، لما بدا أنه إشارة مباشرة إلى الادعاءات التي تقول إن «الحزب الحاكم في موزمبيق قام بتزوير الانتخابات الأخيرة»، أنت كذاب، فحتى لو خسرت فإنك تستطيع أن تفوز.

ويعد الفنان، بانايبرا غابرييل كاندا، الراقص ومصمم الرقصات المعاصر الأكثر شهرة وانتشاراً وتأثيراً في موزمبيق. ونُظم هذا العرض الذي أقيم الشهر الماضي، في نفس المكان في مابوتو، الذي انطلق منه أول عمل له قبل أكثر من 25 عاماً، تتويجاً لمسيرته المهنية التي تابعت الصراعات السياسية والاجتماعية المعقدة في بلاده.

ولد كاندا في السنة نفسها التي حصلت فيها موزمبيق على استقلالها من البرتغال في عام 1975، ووظف هذا الراقص، الذي يبلغ من العمر (47 عاماً)، فنه في الرقص والتصميم، كجزء من الكفاح الذي قاد بلاده إلى الاستقلال، وللترويج للنظام الاشتراكي، والديمقراطية، ومحاربة الفساد. واستهدفت رقصاته الهيمنة الغربية، والتصورات السيئة لقارة إفريقيا. ويقول كاندا: «عملي يتعلق وبصورة أساسية بالتاريخ، وبأرشيف هذه الدولة، ولكن في الحوار مع العالم أيضاً»

وخلال مسيرته الفنية، أنشأ شركة ساعدته على تدريب عدد كبير من الراقصين، وتطوير مشهد الرقص الموزمبيقي المعاصر إلى درجة أن الدولة نظمت الشهر الماضي مهرجاناً للرقص بعنوان «ارقصي إفريقيا ارقصي»، وهو أكبر مهرجان رقص إفريقي معاصر في القارة السمراء، والذي يقام للمرة الأولى في تاريخ الدولة.

وبهذه الطريقة، استطاع كاندا أن يعرض إنتاجه الأخير، والذي يحمل عنوان «أكاذيب مبتهجة» وهو عمل طموح يحمل رسائل عدة، تتحدى الافتراضات التي تقول إن «الحضارة الإفريقية بدائية»، وهي انتقاد لما يُعتقد أنه تضارب متزايد بين كلمات القادة السياسيين وأفعالهم، خصوصاً من قبل القادة السياسيين في بلاده.

ويقول كاندا إنه حدد مسيرته الفنية من خلال إعادة التقييم المستمر لما يعنيه أن تكون موزمبيقياً، والتفكير في وجودنا عالميا. ويضيف إنه أعاد استكشاف هوية بلده، وإعادة تعريفها ضمن قيم، مثل: الديمقراطية والعدالة.

ويقول الصحافي بنيلدا ماتسينهي، والذي يعمل محاضراً في جامعة إدواردو موندلين في مابوتو، ويغطي الرقص المعاصر في موزمبيق «من خلال الرقص الموزمبيقي المعاصر بصورة عامة، ثمة قضية يجب استيعابها» ويضيف: «مع كاندا، فإن هذه القضية واضحة للعيان، ويمكن للجمهور أن يستوعبها بسهولة، ولا يمكن أن تشاهد أداء كاندا من دون أن تفهم المغزى الذي يدور حوله هذا المقطع من الرقص».

ولد كاندا في دولة كانت تسعى إلى تنفيذ مشروع اشتراكي، يرى في الفنون أداة حاسمة للتلقين. وتبنت حركات استقلال عدة في شتى أنحاء إفريقيا الأيديولوجية اللينينية، التي تدافع عن ثورة الطبقة العاملة. ومن الطرق التي حاولت من خلالها حركة تحرير موزمبيق، إشعال شرارة مثل هذه الثورة، الترويج لثقافة جديدة للقيم الاشتراكية، بما في ذلك استغلال الفن كأسلوب لطرح الأفكار والمخاطبة بدلاً من الكلام المباشر.

وتم استخدام الرقص في معسكرات حركة فريليمو التحريرية خلال حرب الاستقلال، التي بدأت في ستينات القرن الماضي، حيث كان المقاتلون يتشاركون في أداء الرقصات، إذ كان كل مقاتل يؤدي رقصة معينة تدل على المجتمع الذي جاء منه. ووفق ما قاله عالم الإنثربولوجيا بالمعهد الوطني للأبحاث الاجتماعية والثقافية في مابوتو، ماريليون وأين، كان لسان كل واحد يقول: «ربما جئنا من مناطق مختلفة، لكن يجب علينا أن نرسخ العلاقات مع ذلك الشخص وكأن الرقص هو الوسيلة للقيام بذلك».

وخلال السنوات الأولى التي تلت الاستقلال، تم إحضار المقاتلين السابقين إلى العاصمة مابوتو، لتعليم أنواع الرقصات الخاصة بالمناطق التي جاؤوا منها، كي لا يضيع هذا الإرث الفني، ما أدى إلى ظهور 250 راقصاً في شتى أنحاء موزمبيق. وتقول الراقصة السابقة وأستاذة الرقص في مدرسة الرقص الوطنية في مابوتو، كانديدا ماتا: «هناك هدف لهذا العمل، وهو الإشادة بهؤلاء الذين شاركوا في حرب الاستقلال، وذلك بالقول لهم هذه الدولة التي حاربتم من أجلها الآن عليكم أن تشعروا بالراحة والهناء فيها».

وعلى الرغم من أن كاندا ربما ولد بعد الكفاح من أجل الحرية، فإنه ترعرع في ظل إرث ذلك الكفاح. وفي أوائل الثمانينات، قال كاندا: إنه «كان غارقاً في نشوة، وفرحة موزمبيق المستقلة»، ولقد استجاب لمناشدات أول رئيس بعد الاستعمار، وهو سامورا ماشيل، من أجل تدريب الأطفال، وجعلهم يشعرون بأنهم يعيشون في وطنهم المستقل، وأنهم يحافظون على نشاطهم. وتذكر الفترة التي كان يحضر فيها فعاليات احتفالية في «ميدان الأبطال» في مابوتو، حيث أنشد الأطفال الأغاني الثورية، وهتفوا لرئيسهم.

ونشأ كاندا على يد موسيقيين، وكان شغوفاً بالرقص عندما كان صبياً صغيراً. وكان والده يعمل صانع أقفال، لكنه كان مولعاً بالموسيقى، ويعزف على الغيتار في إحدى الفرق الموسيقية المحلية، بينما كانت والدته، وهي خياطة، تعمل مغنية احتياطية. وقال: إن «موسيقى والده احتفت بالنضال والثورة من أجل التحرير، وأنها تمجد حركة النضال، والقتال من أجل البلاد»

وعندما بلغ كاندا من العمر 16 عاماً، التحق بمدرسة فنية لتعليم الموسيقى بالقرب من إحدى دور الثقافة التي تطورت خلال الحقبة الاشتراكية للترويج للفنون، بينما كان في الوقت نفسه يدرس المحاسبة، لكن سرعان ما قرر التركيز على الموسيقى والفن، بسبب زياراته المتكررة إلى المركز الثقافي، «كازا فيلها»، حيث تلقى دروساً في المسرح، وانضم إلى فرقة مسرحية.

وتشكلت مجموعة رقص تقليدية في منزل كاندا، وقال: إنه «انجذب في النهاية نحو هذا الشكل الفني، لأنه يرى أن الرقص وسيلة أكثر مرونة لعرض الأفكار، ونقل ما يريد قوله إلى الجمهور ليس عن طريق الحوار والكلام وإنما عن طريق الحركات الجسمية الراقصة». وأضاف كاندا: «كان يعبرون عن أنفسهم بحرية، ويقفزون ويرقصون ويتعرقون، ولم يكونوا على اتصال بشخصية أو سيناريو مكتوب كما هو الأمر في المسرح التقليدي».

• خلال مسيرته الفنية أنشأ بانايبرا غابرييل كاندا شركة ساعدته على تدريب عدد كبير من الراقصين، وتطوير مشهد الرقص الموزمبيقي المعاصر إلى درجة أن الدولة نظمت الشهر الماضي مهرجاناً للرقص بعنوان «ارقصي إفريقيا ارقصي» وهو أكبر مهرجان رقص إفريقي معاصر في القارة السمراء، والذي يقام للمرة الأولى في تاريخ الدولة.

• يرى كاندا أن الرقص وسيلة أكثر مرونة لعرض الأفكار، وينقل ما يريد قوله إلى الجمهور ليس عن طريق الحوار والكلام، وإنما عن طريق الحركات الراقصة.


شعب الماكوندي

بعيداً عن أن الرقص يعد شكلاً من أشكال التعبير والاحتفال، تم استخدام رقص يُطلق عليه «مابيكو»، منذ فترة طويلة، من قبل شعب الماكوندي، وهي مجموعة عرقية تعيش في جنوب شرق تنزانيا وشمال موزمبيق وكينيا. وطور الماكونديون ثقافتهم في موزمبيق، بينما يروون العديد من قصص الماضي لتذكير الأجيال الشابة بتاريخهم. وفي الأغلب يستخدمون الرقص للتعليق على ما يحدث في الحاضر، وبالتالي يصبح الرقص شكلاً من أشكال التعليق والتعبير الاجتماعي. وبات رقص «مابيكو» أحد العناصر الأساسية لتوحيد الناس وحشدهم معاً، وهذه هي الطريقة التي يساعد فيها الرقص المجتمع خلال الصراعات، لتجاوز خلافاته.

وكان شعب ماكوندي من المنبوذين نوعاً ما في موزمبيق، لكن نتيجة محافظتهم على بعض التقاليد، وإبقائها على قيد الحياة، تمكنوا من المحافظة على هويتهم في مابوتو العاصمة المعاصرة والعالمية والحديثة. وخلال الانتخابات الأخيرة، أصبح الرئيس المنتخب فيليبي نيوسي، أول شخص من الماكوندي يتولى مثل هذا المنصب في السلطة على الإطلاق، لذلك فإن الجميع يشعرون بالفضول لمعرفة ما إذا كان ذلك سيُحدث أي فرق في مصير الشعب الماكوندي.

 فيليبي نيوسي أول رئيس لموزمبيق من شعب الماكوندي. أرشيفية


خيبة أمل الفنان «كاندا» من سياسة بلاده

دعا المدربون في مركز «كازا فيلها» الثقافي، مقاتلي حرب التحرير السابقين إلى الحضور لتعليم الرقصات التقليدية، وإدخال العديد من التقنيات والتقاليد الجديدة من جميع أنحاء موزمبيق، وتقديمها للفنان الاستعراضي بانايبرا غابرييل كاندا. وركز كاندا في بداية حياته المهنية، على الرقصات الثقافية التقليدية التي مارسها الراقصون الموزمبيقيون في الأغلب أثناء النضال من أجل التحرير، لكنه شعر أن الرقص التقليدي خنق إبداعه، لذلك بدأ يفكر في حياته في مابوتو، واهتماماته الحالية والقضايا الساخنة في بلاده مثل الشيوعية والديمقراطية وحرية التعبير.

ولديه الكثير من المواد للعمل عليها هذه الأيام. ويشعر موزمبيقيون عدة بقلق متزايد من أن حكومتهم تنزلق بسرعة نحو الاستبداد. وأدى التمرد المتطرف في الجزء الشمالي من البلاد إلى نوع من عدم الاستقرار. ودائماً عبرت أعمال كاندا عن خيبة الأمل في السياسة، ويشعر بأن قادة موزمبيق يكذبون على ناخبيهم، لأنهم يقدمون لهم الوعود حول إنجاز الكثير من الأهداف، لكن لا يوجد أي شيء على الأرض من كل ذلك.

ولكن وسط القضايا المُلحة، سعى كاندا إلى استخدام جماليات وإيقاعات جديدة، لتغيير الرقص التقليدي. ومزج ذات مرة رقصة شيجوبو، وهي رقصة حربية موزمبيقية تقليدية، مع «الفادو»، وهو نوع من الموسيقى البرتغالية. وقال كاندا: إنها كانت تجربة ومحاولة لمعرفة ما سيحدث عندما يتم دمج فنون جاءت بها قوة استعمارية فرضت أساليبها على بلاده مع التقاليد الموزمبيقية والفنون المحلية.

وأكد كاندا أنه يحاول من خلال كل ذلك فهم عصره، وما يحدث في العالم الآخر خارج موزمبيق، وإنشاء سجل تاريخي، وأضاف: «أردت أن أبتكر شيئاً مستوحى من الرقصات التقليدية، لكن ذلك يعكس وقتي» وتابع: «آمل أن تتمكن الأجيال القادمة من فهم عصرنا من خلال عملي، وهذا سيسعدني تماماً».

 شيجوبو.. رقصة حربية موزمبيقية تقليدية. أرشيفية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى