اخبار الامارات

الإمبراطورية الأميركية تفقد كثيراً من هيمنتها وسطوتها

كثيراً ما تصف أميركا نفسها بعبارات منمقة مثل الدولة المشرفة على التل، والأمة التي لا غنى عنها، وأرض الحرية، ولكن هناك عبارة أخرى تنطبق أيضاً على الولايات المتحدة: الإمبراطورية العالمية. وخلافاً للمفاهيم الأخرى التي نشأت أثناء ولادة الجمهورية، يعود هذا المفهوم إلى المراحل النهائية من الحرب العالمية الثانية، ففي مؤتمر «بريتون وودز» الشهير، طورت الولايات المتحدة نظاماً تجارياً ومالياً دولياً كان بمثابة اقتصاد إمبراطوري، حيث كان يوجّه بشكل غير متناسب ثمار النمو العالمي نحو مواطني الغرب.

وإلى جانب ذلك، أنشأت أميركا حلف شمال الأطلسي (الناتو) لتوفير مظلة أمنية لحلفائها ومنظماتها، مثل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لصياغة سياسات مشتركة. وعلى مدى النصف الثاني من القرن العشرين، حقق هذا النظام درجة من الهيمنة على العالم لم تعرفها أي إمبراطورية سابقة.

لكن في العقدين الماضيين تراجعت هذه الظاهرة، ففي مطلع الألفية، كان العالم الغربي يمثل أربعة أخماس الناتج الاقتصادي العالمي. أما اليوم، فقد انخفضت هذه الحصة إلى ثلاثة أخماس وهي آخذة في الانخفاض. وفي حين تناضل الدول الغربية من أجل استعادة ديناميتها، فإن الدول النامية تتمتع الآن بأسرع الاقتصادات نمواً على مستوى العالم من خلال مؤسسات مثل «البريكس» و«أوبك»، وبتشجيع من الصين، تقوم بتحويل ثقلها الاقتصادي المتنامي إلى قوة سياسية.

ومن هذا المنظور، قد يبدو أن الولايات المتحدة تتبع مسار جميع الإمبراطوريات: محكوم عليها بالانحدار والسقوط في نهاية المطاف. صحيح أن أميركا لن تتمتع مرة أخرى أبداً بدرجة الهيمنة الاقتصادية والسياسية العالمية التي مارستها في العقود التي تلت الحرب، ولكنها تستطيع، من خلال الاختيار الصحيح، أن تتطلع إلى مستقبل تظل فيه هي الدولة المتفوقة في العالم.

ومن المسلّم به أن تسمية أميركا بالإمبراطورية تثير الجدل أو على الأقل الارتباك، ففي نهاية المطاف لا تطالب الولايات المتحدة بالسيادة على أي دولة، بل إنها حثت حلفاءها على التخلي عن مستعمراتهم، وهناك سابقة مضيئة لهذا المشروع الإمبراطوري الذي صاغته الولايات المتحدة بعد الحرب: الإمبراطورية الرومانية.

وبحلول القرن الرابع، تطورت تلك الإمبراطورية من دولة غزو إلى دولة ظلت فيها المدينة الخالدة مركزاً روحياً، ولكن تم تقاسم السلطة الفعلية عبر المقاطعات، مع مركزين للسلطة الإمبراطورية أحدهما في الشرق والآخر في الغرب، وفي مقابل جمع الضرائب، تمتعت النخب من مالكي الأراضي في المقاطعات بحماية الفيالق، وتعزز ولاؤهم للإمبراطورية من خلال حصة حقيقية في فوائدها، وما يسميه المؤرخ بيتر هيذر ثقافة توحيد اللاتينية والبلدات و«التوغا».

ومثل أميركا الحديثة، حققت روما درجة من التفوق لم يسبق لها مثيل في عصرها، لكن المفارقة في الأنظمة الإمبراطورية العظيمة هي أنها غالباً ما تزرع بذور سقوطها. ومع ازدياد ثراء روما وقوتها من خلال الاستغلال الاقتصادي لأطرافها، فقد حفزت عن غير قصد تنمية المناطق خارج حدودها الأوروبية، وبمرور الوقت اكتسبت الاتحادات الكونفيدرالية الأكبر حجماً والأكثر تماسكاً سياسياً، قوة، وأظهرت قدرة على التصدي للهيمنة الإمبراطورية، وفي نهاية المطاف استطاعت دحرها.

وعلى نحو مماثل كان انحدار أميركا نتاجاً لنجاحها، فعلى الرغم من أن البلدان النامية كانت تنمو بشكل أبطأ في فترة ما بعد الحرب مقارنة بنظيراتها الغربية، فإنها استمرت في النمو. وبحلول نهاية القرن بدأت في تحويل هذا النفوذ الاقتصادي المتوسع إلى قوة سياسية ودبلوماسية، ولم تبدأ تلك البلدان في اكتساب القدرة على التفاوض على اتفاقيات تجارية ومالية أفضل فحسب، بل كانت لديها أيضاً ورقة مساومة حاسمة في شكل اثنين من الموارد التي تحتاج إليها الشركات الغربية الآن: الأسواق المتنامية وإمدادات العمالة الوفيرة.

إحدى العلامات الأولى الأكثر حزماً للدول النامية جاءت في مؤتمر منظمة التجارة العالمية في سياتل عام 1999، حيث وحّدت مجموعة من الدول النامية قواها لوقف الإجراءات، منهية بذلك الممارسة القديمة المتمثلة في قيام حفنة من الحلفاء الغربيين بصياغة مسودة اتفاق لعرضها على المندوبين. ومنذ ذلك الحين، خفضت البلدان النامية تدريجياً اعتمادها على البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وشكلت مؤسسات إقراض خاصة بها، وبدأت في الترتيبات التجارية التي تقلل اعتمادها على الدولار.

تقول القصة إن روما قد أطيح بها من خلال ما يسمى الغزوات البربرية، لكن الحقيقة أكثر تعقيداً. وفي غضون جيل واحد فوضوي في عام 400، عبرت اتحادات عدة إلى النصف الغربي من الإمبراطورية، وشكّل هؤلاء المهاجرون تحالفات أكبر على الأراضي الرومانية، مثل القوط الغربيين والوندال، وكانت هذه التحالفات قوية جداً، بحيث لم تتمكن الإمبراطورية من هزيمتها.

وفي هذا العصر سارع بعض المعلقين إلى وصف الهجرة الحديثة إلى الغرب باعتبارها قوة مدمرة بنفس القدر، لكن هذا هو الدرس الخطأ الذي يجب أن نتعلمه من التاريخ الروماني. فقد كان اقتصاد الإمبراطورية زراعياً ومستقراً في المقام الأول، فإذا ارتفعت إحدى القوى، كان لابد من سقوط قوة أخرى، حيث لا يمكنك ببساطة، توسيع قاعدة الموارد لدعم كليهما، وعندما أثبتت روما عدم قدرتها على هزيمة المتنافسين الجدد، فقدت مصدراً للضرائب لم تتمكن من استرداده.

الوضع اليوم مختلف تماماً، فبفضل التطور التكنولوجي لم يعد النمو الاقتصادي لعبة محصلتها صِفر، حيث أصبح ممكناً في مكان دون آخر. وعلى الرغم من أن الدول الغربية لم تعد تهيمن على التصنيع والخدمات، فإنها لا تزال تحتفظ بميزة في الصناعات كثيفة المعرفة مثل الذكاء الاصطناعي والأدوية، أو قيامها بتأسيس قيمة العلامة التجارية، كما هو الحال في السلع الفاخرة والرياضة والترفيه، ومن الممكن أن يستمر النمو الاقتصادي في الغرب حتى ولو كان أبطأ مما هو عليه في الدول الطرفية.

لكن هذه الدول ستحتاج إلى العمال، وبالنظر إلى أن المجتمعات الغربية، مع انخفاض معدلات المواليد والشيخوخة السكانية، لم تستطع هذه الدول إنتاج ما يكفي من العمال، لذا يتعين عليها جلبهم من أطراف العالم (سواء أولئك الذين يهاجرون إلى الغرب أو العديد ممن لا يزالون في أوطانهم) للعمل في شركات سلاسل التوريد التي تخدم الغرب. وربما أدت الهجرة إلى تآكل ثروة الإمبراطورية الرومانية، والآن أصبحت العمالة هي التي تحمي الغرب من الانحدار الاقتصادي المطلق.

أوجه التشابه الأخرى مع التاريخ الروماني أكثر مباشرة، فقد نجا النصف الشرقي من الإمبراطورية الرومانية من الانهيار الذي تعرض له النصف الغربي في القرن الخامس، وكان قادراً على تأسيس موقع هيمنة على الممالك الجديدة في أراضيه الغربية المفقودة، وكان من الممكن أن يستمر هذا الوضع إلى أجل غير مسمى لو لم تنفق الإمبراطورية مواردها الحيوية، بدءاً من أواخر القرن السادس، في صراع غير ضروري مع منافسها الفارسي المرير. فقد قادتها الغطرسة الإمبراطورية إلى سلسلة من الحروب التي تركت الإمبراطوريتين، بعد جيلين من الصراع، عرضة لتحدي طغى عليهما في غضون بضعة عقود فقط: عالم عربي موحّد حديثاً.

وبالنسبة لأميركا فهي مسألة تحذير، ففي الرد على حتمية صعود الصين، يتعين على الولايات المتحدة أن تسأل نفسها: ما هي التهديدات التي تعد وجودية وتلك غير المريحة لها. هناك مخاطر ملحة تواجه الغرب والصين مثل الأمراض وتغير المناخ، ومن شأنها أن تدمر البشرية جمعاء ما لم تتصدّ لها الدول معاً. أما بالنسبة لعسكرة الصين وعدوانيتها المتزايدة، فيتعين على الولايات المتحدة أن تفكر في ما إذا كانت تواجه حقاً فخ ثوسيديديس (مصطلح مقتبس من المؤرخ الأثيني والجنرال العسكري ثوقيديدس) الذي افترض أن الحرب البيلوبونيسية بين أثينا وأسبرطة حتمية بسبب مخاوف أسبرطة من نمو القوة الأثينية المتمثل في قوة صاعدة، أو ببساطة دولة تدافع عن مصالحها المتزايدة.

وإذا كان على الولايات المتحدة أن تواجه الصين سواء عسكرياً، أو دبلوماسياً فقط كما نأمل، فإنها سترث مزايا كبيرة من إرثها الإمبراطوري، فما تزال البلاد تتمتع بمصادر قوة لا يمكن لأحد أن ينافسها بجدية: عملة لا تواجه تهديداً خطراً كوسيلة للتبادل العالمي، ومجمعات رأس المال العريقة التي تتم إدارتها في «وول ستريت»، وأقوى جيش في العالم، والقوة الناعمة التي تمارسها جامعاتها، والجاذبية الواسعة لثقافتها، ولا يزال بوسع أميركا أن تلجأ إلى أصدقائها في مختلف أنحاء العالم. وفي مجمل الأمر ينبغي لها أن تكون قادرة على حشد مواردها الوفيرة حتى تظل القوة الرائدة في العالم.

ولكن لكي تتمكن أميركا من تحقيق هذه الغاية، يتعين عليها أن تتخلى عن محاولة استعادة مجدها الماضي من خلال نهج «أميركا أولاً» الذي يعتمد على العمل بمفردها. لقد كان نفس الدافع الذي دفع الإمبراطورية الرومانية إلى المغامرة العسكرية التي أدت إلى تدميرها في نهاية المطاف. ولقد تغير الاقتصاد العالمي ولن تتمكن الولايات المتحدة – مرة أخرى – من السيطرة على الكوكب، كما فعلت من قبل، لكن إمكانية بناء عالم جديد من خلال تحالف ذوي التفكير المماثل، هو ترف لم تتمتع به روما على الإطلاق، ويتعين على أميركا أياً كانت تسمي نفسها أن تغتنم الفرصة.

• إذا كان على الولايات المتحدة أن تواجه الصين، سواء عسكرياً أو دبلوماسياً فقط كما نأمل، فإنها سترث مزايا كبيرة من إرثها الإمبراطوري. فلاتزال البلاد تتمتع بمصادر قوة لا يمكن لأحد أن ينافسها بجدية: عملة لا تواجه تهديداً خطراً، ومجمعات رأس المال العريقة في «وول ستريت»، وأقوى جيش في العالم، والقوة الناعمة التي تمارسها جامعاتها.

• من المسلّم به أن تسمية أميركا بالإمبراطورية تثير الجدل أو على الأقل الارتباك. ففي نهاية المطاف، لا تطالب الولايات المتحدة بالسيادة على أي دولة، بل إنها حثت حلفاءها على التخلي عن مستعمراتهم، وهناك سابقة مضيئة لهذا المشروع الإمبراطوري الذي صاغته الولايات المتحدة بعد الحرب: الإمبراطورية الرومانية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى