اخبار الكويت

شخصيات تونسية تاريخية  حمودة باشا باي قائد تونسي ملهم – بقلم سفير دولة تونس لدى الكويت الهاشمي عجيلي

أنجبت تونس على مر تاريخها الحافل بالملاحم والبطولات، أبناء بررة ذوي همة وعزم، ساهموا في خدمة شعبهم وإعلاء راية بلدهم بين الأمم، حتى أصبحت سيرهم نموذجا يحتذى ونجاحاتهم تحظى بتقدير واحترام كبيرين.

ويعتبر حمودة باشا المولود في ضاحية باردو في 9 ديسمبر1759 الباي الحسيني الخامس لتونس الذي حكم البلاد من سنة 1782 حتى سنة 1814 أحد عظماء تونس وبناة نهضتها من خلال إسهاماته الرائدة التي طبعت مختلف نواحي الحياة في البلاد التونسية.

ميزاته الشخصية وصفاته القيادية:

حاز حمودة باشا صفات وخصالا متعددة، أهّلته لنحت وتكوين شخصية قيادية استثنائية، أجمع المؤرخون والسياسيون على تصنيفه من بين أبرز الزعماء في تاريخ تونس والعالم العربي والإسلامي، حيث يقول عنه المؤرخ التونسي أحمد بن أبي الضياف في كتابه إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان بأنه «هو عماد البيت، وفريدة السلك المعدود من مفاخر هذا القطر، ثاقب الفكر صادق العزم، ثابت الجنان، أبي الضيم، وكان غيورا على الوطن، محبا لأهله، عارفا بمنازلهم، متألفا لهم، بعيدا عن السرف، عظيم المهابة في القلوب».

ويضيف ذات المؤرخ: لقد كان حمودة باشا «ذا همة باذخة وحال شامخة حازما حاميا للذمار، غير متحمل للعار، خبيرا في سياسة البلاد، نصوحا لها، حسن التدبير، محبا للعلماء والصالحين، يباشر المهمات بنفسه مقتصدا في شخصياته حافظا لأموال المسلمين لا تأخذه في الله لومة لائم».

كما تميز حمودة باشا باطلاعه على أخبار الأمم والشعوب والبلدان، وتشبعه بفكر العلامة التونسي «ابن خلدون» مؤسس علم الاجتماع، قارئا نهما لكتبه وأبرزها المقدمة وكتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم.

وبالتوازي مع اهتمامه بخصائص الحضارة الإسلامية، أبدى حمودة باشا إعجابا بالنهضة التي شهدتها أوروبا الغربية وأفكار فلاسفة التنوير ومبادئ الثورة الفرنسية لسنة 1789، وقد ساعده إتقانه للغات التركية والفرنسية والإيطالية بالإضافة إلى العربية، على فهم ما يجري حول تونس والخلافة العثمانية وجواره الإقليمي من أحداث ومستجدات.

وفي السياق ذاته، ينقل تقرير فرنسي رفع إلى الإمبراطور نابليون عن بعض المصادر الغربية المرموقة في تونس قولهم: «إن إتقان حمودة باشا لبعض اللغات الأوروبية فتحت له مجالات ثقافية مهمة.. وجعلته يمتلك معارف نادرة لم تتوافر لغيره من حكام شمال أفريقيا.. إنه الأمير الفريد بين أمراء المسلمين قاطبة الذي يتمتع بثقافة مرموقة مكنته من فهم مصالح القوى والدول..».

كما اتصف حمودة باشا بالصبر والذكاء والميل الدائم إلى التشاور، وحرص على إحاطة نفسه بمجموعة من الوزراء والمستشارين ذوي الكفاءة والروح الوطنية أمثال مصطفى خوجة ويوسف صاحب الطابع وسليمان كاهية ومحمد العربي زروق، وكان يردد دائما مقولته الشهيرة «الخطأ مع الجمهور أحب إلي من الإصابة وحدي.. الرأي كالليل مسود جوانبه والليل لا ينجلي إلا بإصباح، فأضمم مصابيح آراء الرجال إلى مصباح رأيك، تزدد ضوء مصباحك».

إصلاحات وإنجازات داخلية رائدة:

فور تسلمه مهام قيادة الدولة بادر حمودة باشا باتخاذ سلسلة من المبادرات والإجراءات لتقوية الروابط داخل محيطه العائلي، وقطع الطريق على أية محاولة لزرع الفتن بين أفراد الأسرة الحاكمة، وهي خلافات حدثت في فترات سابقة من تاريخ الدولة وتسببت في إنهاك البلاد (الفتنة الباشية 1728-1756 بين أفراد العائلة الحسينية الحاكمة لتونس).

كما حرص على الإنصات لمشاغل شعبه ورفع المظالم عنهم وتقليص الضرائب قدر الإمكان من أجل تحفيزهم للإسهام بفعالية في مشروعه الإصلاحي بالتوازي مع تقربه من رجال الدين والثقافة، والانفتاح أكثر على وجهاء القبائل وكبار التجار والصناعيين. وشهدت المدن التونسية في عهده نهضة عمرانية تمثلت في بناء المدارس والأسواق والجوامع والجسور والطرقات وغيرها.

وحث حمودة باشا الشباب على الإقبال على العمل والنشاط، ونقل عنه قوله: «لا أبغض أحدا من أهل بلادنا، إلا البطال الذي لا نفع فيه للوطن، وأحب الناشط، ولو يرعى البقر»، كما شجع الحرف والصناعات الوطنية على غرار النسيج والحرير والعطور والشاشية والخزف، التي شهدت في عهده تطورا كبيرا، أهلها لغزو أسواق متنوعة داخليا وخارجيا، بعد سنوات من التراجع أمام المنتجات الأجنبية.

وفي هذا الإطار، يقول المؤرخ حسن حسني عبدالوهاب في كتابه «خلاصة تاريخ تونس» إن «حمودة باشا كان لا يتباهى، إلا بصنع البلاد من لبس منسوجاتها ومصنوعاتها ولم يلبث أن اقتفى الناس أثره في ذلك» وحرص أن تكون هداياه المرسلة لزعماء العالم منتوجات تونسية خالصة، كما كان يعقد معاهدات تجارية مع البلدان المختلفة للحصول على المواد الخام ذات النوعية الجيدة، لكي يتم فيما بعد تحويلها إلى منتوجات تونسية ذات قيمة تنافسية عالية.

وساعدت معرفة حمودة باشا بالزراعة وفنونها في بلورة سياسة فلاحية جديدة، تم بموجبها تشييد الضياع وحفر عديد الآبار وتوزيع الأراضي على صغار الفلاحين وتمتين الاستفادة من خبرة الأندلسيين الذين استقروا بالبلاد، فزاد الإنتاج وتنوعت الغراسات وتحولت تونس إلى دولة مصدرة للحبوب والزيت والفواكه والخضر والتمور، وذلك بالرغم من الصعوبات التي اعترضت البلاد جراء جائحة الطاعون والمجاعة سنتي 1784 و1785.

كما اهتم حمودة باشا بتطوير الإدارة عبر إحلال التونسيين محل الأجانب في المناصب العليا وعمل على تكوين «المماليك» الذين أبدوا مؤهلات مميزة، تحولت على إثرها الإدارة التونسية إلى هيكل عصري شعاره الانضباط والإتقان والتطور.

ووعيا منه بخطورة الفتن والتهديدات التي تستهدف البلاد سعى حمودة باشا إلى «تونسة» مؤسسة الجيش بصفة تدريجية، عبر تشجيع أبناء القبائل والشباب على الانخراط في حملات التجنيد الواسعة، وزيادة تمويل الجيش وإطلاق مشاريع ترميم الأسوار والحصون ودور الصنائع حربية، بالإضافة إلى اكتساب تقنية صناعة البارود والمدافع وبناء السفن وغيرها.

وقد ساهمت هذه العوامل في رفع جاهزية الجيش التونسي الذي أصبح قوة مهابة برا وبحرا واضطلع بدوره بنجاح في التصدي للتهديدات والانتصار في كل المعارك التي خاضها وحماية الحدود والدفاع عن المصالح الوطنية للبلاد التونسية.

اعتماد سياسة خارجية حكيمة وانتهاج ديبلوماسية اقتصادية نشطة:

أظهر الباي الحسيني الخامس لتونس عبقرية فريدة، في إدارة علاقاته الخارجية، منتهجا سياسة حكيمة وذكية تعتمد في الأساس على «توازن المصالح والديبلوماسية الاقتصادية» وسط مناخ دولي متقلب، حيث حافظ على علاقة ودية مع السلطان العثماني بالتوازي مع تكريس «استقلال تونس الفعلي» عن الإمبراطورية واستعادة مقومات الهوية الوطنية التونسية، كما اتخذ موقفا حاسما ضد حملة نابليون على مصر ما بين 1798 و1801 وفي الوقت نفسه أمن حقوق الرعايا الأوروبيين في تونس، الذين خشوا على أرزاقهم وممتلكاتهم، جراء تلك الحملة.

وطيلة العقود الـ 3 لحكمه نجح حمودة باشا في إبرام معاهدات ديبلوماسية وتجارية مهمة وإرساء تعاون اقتصادي ثري مع كل من فرنسا وإسبانيا وبريطانيا وممالك إيطاليا (جنوى – البندقية – ليفورنو) ومالطا والولايات المتحدة الأميركية، وتمثلت الصادرات التونسية في الحبوب، الزيت، التمور، الصوف، الفواكه، الخيول، الشاشية، الملابس، والعطور، أما الواردات فشملت الصوف الإسباني، الذهب، العقاقير التبغ، الورق الإيطالي، بل إن القهوة «المارتينيك» الأميركية لقيت رواجا كبيرا في البلاد التونسية، كما قدرت البضائع الأميركية المعروضة في أسواقها بـ 500 ألف ريال سنة 1810 دون اعتبار مداخيل حماية السفن الراسية في الموانئ التونسية.

بدورها، عرفت التجارة البينية بين تونس والجزائر وليبيا والمغرب تطورا مهما، حيث نشطت المبادلات في قطاعات النسيج والملابس والشاشية والأبقار والخيول والقمح والقوارص والتمور والقطن والزيت والأسلحة والذهب والعاج ومثلت المدن التونسية كقفصة ونفطة وقابس وأخرى على الحدود الجزائرية والليبية مناطق عبور مهمة للبضائع المصدرة والموردة من وإلى المغرب ومصر وأفريقيا، وساهم النشاط التجاري المكثف في تمتين الروابط الأخوية والتضامنية بين كافة شعوب المنطقة.

وإن كتب علينا أن نختصر مسيرة حمودة باشا فإنه يحق لنا أن نقول إنه القائد الذي انتصر على الفقر والمجاعة والطاعون التي ألمت بتونس وهو الزعيم الذي وأد الفتن وكافح الفساد وذاد عن الوطن وأنصت لصوت الشعب، وهو من قاد مسيرة إصلاح الزراعة وتطوير الإدارة وتشييد البنيان عبر إنشاء عدد من المدارس والمكتبات والمصانع والأبراج والمساجد والقصور ووسع الضياع وقنوات الري وفتح المجالات أمام السلع والبضائع التونسية لكي تعبر في كل الأنحاء والاتجاهات، وفي عهده تم تطعيم الشعب التونسي ضد الأوبئة، وهي سابقة أولى في العالم العربي والإسلامي ومن ضمن أوائل الدول في العالم ككل، كما برزت الاختراعات وحلق المنطاد في سماء البلاد التونسية، ثاني دولة في العالم بعد فرنسا يحلق فيها المنطاد.

لقد حظي حمودة باشا بحب التونسيين واحترام الآخرين في العالم الإسلامي والدول الغربية، ويكفي لنا أن نشير أن «الإفطار الرمضاني السنوي» الذي يقيمه رؤساء الولايات المتحدة الأميركية على شرف السفراء المسلمين منذ أكثر من217 عاما، يعود الفضل فيه إلى عهد حمودة باشا، حين بادر الرئيس الأميركي توماس جيفرسون في 9 ديسمبر 1805 بتأخير مأدبة الغذاء المقامة على شرف الوزير سليمان مليملي مبعوث باي تونس إلى غروب الشمس، تبجيلا لضيفه واحتراما لمكانة تونس وهويتها الأصيلة.

إن الحديث عن حمودة باشا، هو كمن يتصفح ورقة ناصعة من تاريخ تونس المشرف، صفحة حافلة بمعاني الصبر والتحدي وتجاوز الصعوبات، صفحة مكتوبة بدماء الشهداء ومخطوطة بسواعد أبطال رفعوا راية الوطن خفاقة.. وفي بلادي كتابة الصفحات المضيئة، عادة متأصلة ومسار متجدد عبر الزمن، وإن اختلفت فيه المسميات والأحداث، فإن العنوان ثابت، بوصلته لا تتغير.. عاشت تونس.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى