كيف دارت الأيام في قطاع الطيران بين “بوينغ” و”إيرباص”؟

بينما كانت “بوينغ” تعاني الأمرّين تحت وطأة الأزمات التي لاحقتها طوال العام الماضي، كانت منافستها الأوروبية “إيرباص” تمضي في تسريع وتيرة إنتاج الطائرات. ومع ذلك، حرص غيوم فوري، الرئيس التنفيذي لـ”إيرباص”، دوماً على تذكير فريقه بضرورة التواضع. كان فوري يدرك تماماً أن الكفّة قد تنقلب في أي لحظة في هذا القطاع الذي لا يعرف سوى عملاقَين. وجاءت أحداث الأسبوع الماضي لتقرع جرس الإنذار داخل أروقة “إيرباص”، مذكّرةً الشركة أنها ليست بمنأى عن أزمات الإنتاج التي لا تزال تعصف بقطاع الطيران في ظلّ نقص حاد في الإمدادات واليد العاملة، حتى بعد مرور سنوات على انحسار الجائحة.
“إيرباص”.. ضربتان في أسبوع واحد
في صباح الأربعاء، اضطرت “إيرباص” إلى التراجع عن هدفها السنوي لتسليم الطائرات، وهو المؤشر الذي دافعت طويلاً عن قدرتها على تحقيقه، رغم توالي إشارات الخطر. فقد تبيّن أن مورّداً صغيراً في إسبانيا زوّدها بألواح طائرات غير مطابقة للمواصفات، ما أرغم الشركة على التراجع، وسلّط الضوء على مدى ارتهان مصير هذا العملاق الصناعي، الذي تُقدّر قيمته السوقية بـ155 مليار يورو (181 مليار دولار)، إلى شبكة هشة ومبعثرة جغرافياً من صغار المصنّعين.
اقرأ أيضاً: ضربة جديدة.. “إيرباص” تكتشف ثغرات في ألواح هيكل طائرة “A320”
لم تكن هذه الانتكاسة الوحيدة التي مُنيت بها “إيرباص” في الأيام الأخيرة. فمساء الجمعة، دعت الشركة الواقع مقرها في فرنسا إلى مراجعة برمجية عاجلة لأسطول يضم نحو 6000 طائرة من طراز “A320″، عقب اكتشاف خلل محتمل في تفاعل أنظمة الحاسوب مع أدوات التحكم بالطيران على متن طائراتها التي تعتبر الأكثر مبيعاً. وما كادت تمرّ ثلاثة أيام حتى أعلنت “إيرباص” عن مشكلة العيوب في جودة بعض الألواح المعدنية التي تشكل بدن الطائرة نفسها، ما استدعى إطلاق عملية تفتيش شاقة لأكثر من 600 طائرة، سواء تلك التي دخلت الخدمة أو ما تزال قيد التصنيع.
إقلاع “بوينغ”.. وهبوط اضطراري في “إيرباص”
توني فرنانديز، مؤسس شركة طيران “إير آسيا”، قال في مقابلة مع تلفزيون بلومبرغ في 2 ديسمبر إن “ضغوط النتائج الفصلية، وأحياناً المنافسة، قد تؤدي إلى تراجع طفيف في الجودة… وهذا إنذار جيد للجميع”. هذا التصريح يلقي الضوء على التحديات التي تواجهها شركات تصنيع الطائرات في الحفاظ على معايير الجودة العالية مع السعي لتحقيق أهداف الإنتاج الطموحة.
أثارت الضربتان المتتاليتان هذا الأسبوع مخاوف المستثمرين، ودفعـتا سهم “إيرباص” إلى أسوأ أداء يومي له منذ أبريل. زاد من وقع تعثر “إيرباص” أن “بوينغ” كانت تسجل في الوقت نفسه أفضل انتعاشة لأسهمها منذ أشهر، مدفوعة بموجة تفاؤل بشأن تعافيها المالي.
اقرأ أيضاً: إيرباص تحذر من خلل برمجي يهدد سلامة 6 آلاف طائرة “إيه 320”
الثلاثاء، كشفت الشركة الأميركية عن سلسلة توقعات إيجابية، من بينها زيادة مرتقبة في تسليمات طرازي 737 و787 خلال العام المقبل، وعودة منتظرة لتحقيق تدفقات نقدية إيجابية بعد سنوات من النزف المالي. وتلقف المستثمرون هذه الأنباء بحماسة، ما دفع بسهم “بوينغ” إلى الارتفاع بنسبة وصلت إلى 10%.
تمكنت “بوينغ” من انتشال نفسها من أزمة مزمنة بدأت أواخر عام 2018 بتحطّم طائرتين في غضون فترة وجيزة، ثم تفاقمت بفعل جائحة كوفيد-19، قبل أن تزداد حدة في مطلع 2024، حين أدت عيوب تصنيعية إلى حادث كاد ينتهي بكارثة جوية. وفي نهاية العام الماضي، تلقت الشركة ضربة جديدة نتيجة إضراب أنهك قدراتها وعلّق الإنتاج لأسابيع.
ومع ذلك، نجحت الشركة الأميركية في قلب الصفحة تحت قيادة رئيسها التنفيذي الجديد كيلي أورتبرغ الذي أعاد إليها زخمها وأجرى تغييرات إدارية واسعة. هذا التحول في الأداء يعكس أهمية القيادة الفعالة في إدارة الأزمات وتحقيق التعافي.
“ترمب” تميمة حظ بوينغ
حظيت “بوينغ” أيضاً بدعم من البيت الأبيض، إذ استخدم الرئيس الأميركي دونالد ترمب صفقات الطائرات كورقة ضغط في جولاته الخارجية وفي مفاوضاته التجارية حول الرسوم الجمركية. من جانبها، تقرّ “إيرباص” بأن مبيعاتها لا تحظى بمستوى الدعم المؤثّر نفسه الذي تحصل عليه “بوينغ” من ترمب. لكن هذا الأسبوع، سينضم فوري إلى الوفد المرافق للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في زيارة رسمية إلى الصين التي لطالما كانت من الزبائن الأوفياء لطائرات “إيرباص”، خاصة في ظل تصاعد التوتر بين بكين وواشنطن.
اقرأ أيضاً: الأكبر بتاريخ “بوينغ”.. ترمب يعلن شراء قطر طائرات بـ200 مليار دولار
وعلى كلّ حال، لا يُتوقع أن تصل تعثرات “إيرباص” الأخيرة إلى مستوى الانهيار الذي أصاب “بوينغ” العام الماضي. فقد سارعت الشركة إلى معالجة الخلل البرمجي خلال عطلة نهاية الأسبوع، ما ساعد في تقليص الاضطرابات إلى أدنى حدّ، كما أعربت عن ثقتها بأن معظم الألواح الخاضعة للتفتيش ستكون سليمة.
قطاع الطيران في مهب الريح
لكن تعديل هدف التسليم سيجبر بعض شركات الطيران على الانتظار لفترة أطول من أجل الحصول على طائراتها، في وقت تسابق الناقلات الزمن لتحديث أساطيلها ومواكبة الطفرة الكبيرة في الطلب العالمي على السفر. وقد دأبت شركات مثل “رايان إير” على الشكوى من التأخيرات المتكررة التي تعرقل طموحات النمو في القطاع. هذه التأخيرات تؤثر بشكل مباشر على خطط التوسع لشركات الطيران وتزيد من التحديات التشغيلية.
وكتب المحلل ينس-بيتر ريك من شركة MWB Research في مذكرة “المشكلة الجديدة في ألواح هيكل الطائرة تبرز الهشاشة المستمرة في سلسلة التوريد الخاصة بطائرات الممر الواحد، وتعزز قناعتنا بأن إيرباص تواجه قيوداً هيكلية تحول دون رفع وتيرة الإنتاج”. وأضاف أن التوقعات طويلة الأجل للإنتاج “باتت تبدو أبعد فأبعد عن الواقع”. هذا التحليل يشير إلى أن “إيرباص” قد تحتاج إلى إعادة تقييم استراتيجياتها الإنتاجية لمعالجة نقاط الضعف في سلسلة التوريد.
سباق العمالقة في صناعة الطيران يصطدم بعقبة الجودة، وهو تحد يواجه كلتا الشركتين. في وقت لا يزال فيه طموح الصين لاقتحام السوق في مراحله الأولى، يظلّ مصير “إيرباص” و”بوينغ” متداخلاً. فقد احتفظت “بوينغ” لعقود بزعامة شبه مطلقة للسوق، مدعومة بنجاح طراز “737” والطائرات عريضة البدن التي حظيت برواج عالمي. فعندما بدأت “إيرباص” تسليم طائرات A320 في أواخر الثمانينيات، كانت “بوينغ” الأميركية تشحن طائرات 737 بمعدل يفوقها بعشرة أضعاف. لكن مع مرور الوقت، نجحت “A320” في انتزاع الصدارة، لتصبح الطائرة التجارية الأكثر استخداماً حول العالم.
وتخطط “إيرباص” اليوم لرفع وتيرة إنتاج طائرات “A320” إلى 75 طائرة شهرياً بحلول عام 2027، فيما رفعت “بوينغ” هي الأخرى وتيرة تصنيع طراز 737، الأكثر مبيعاً لديها. ومع تسارع الإنتاج لدى العملاقَين، تبرز الحاجة الملحّة للحفاظ على معايير الجودة، وضمان قدرة سلسلة التوريد الهشة على مواكبة هذا الزخم المتصاعد. في غضون ذلك، لا تقتصر متاعب “إيرباص” على الألواح، حيث تواجه أيضاً مشكلات في المحركات على طائرات “A320neo” الأحدث، والمزوّدة بمحركات من إنتاج “برات آند ويتني” التابعة لشركة “آر تي أكس”، ما اضطرها إلى إخراج مئات الطائرات من الخدمة مؤقتاً لإخضاعها لأعمال الصيانة. وتشمل المشكلات الأخرى مكونات داخلية مثل المطابخ ودورات المياه في الطراز الأكبر “A350”.












