«الحيادية».. الطريق الأمثل لقوة أوكرانيا عسكرياً واقتصادياً
يُشار إلى حرب أوكرانيا، التي ستدخل عامها الرابع في نهاية فبراير المقبل، على نطاق واسع باعتبارها حرب استنزاف، وهذا صحيح، فمع مقارنة خرائط ميادين المعركة اليوم مع ما كانت عليه في بداية عام 2024، ستجد من الصعوبة العثور على أي خلاف في ما بينهما.
وباستثناء الهجوم الروسي الأولي في فبراير 2022، والهجوم الأوكراني المضاد في وقت لاحق من العام ذاته، فإن الاختراقات الإقليمية الكبرى قليلة ومتباعدة، والحركة البطيئة والمرهقة والعالية الكلفة على خط المواجهة البالغ طوله 620 ميلاً، ظلت هي القاعدة الراسخة.
شركاء أوكرانيا
ولسوء الطالع بالنسبة لكييف، تميل الكفة عادة في حروب الاستنزاف إلى الجانب الذي يمتلك الكثير من الموارد، لكن أوكرانيا لديها عدد أقل من الرجال من روسيا كي تدفع بهم إلى الحرب (تعداد سكان روسيا أربعة أضعاف سكان أوكرانيا)، في حين أن حجم اقتصاد أوكرانيا يعادل واحداً من 10 من الاقتصادي الروسي، كما أن شركاء أوكرانيا في الغرب يبدون متشككين بصورة متزايدة من إمكانية فوز أوكرانيا بهذه الحرب بالمعنى التقليدي للكلمة.
وعلى الرغم من أن روسيا خسرت عدداً كبيراً من قواتها، فقد تمكنت موسكو حتى الآن من تجنيد عدد كافٍ من البدلاء لمواصلة تعزيز صفوف قواتها، ولا نستطيع قول الشيء ذاته عن أوكرانيا التي تعاني نقصاً في القوى العاملة، والتي خسرت نحو 4100 كيلومتر مربع من أراضيها بحلول عام 2024، وتتخذ في بعض الأحيان قرارات سيئة على المستوى التكتيكي، مثل غزو كورسك الروسية، بدلاً من تبني استراتيجية دفاعية، وتعزيز خطوطها في دونباس.
ومن المؤكد أن الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، ليس أعمى عن الحقائق على الأرض، وكانت هناك لحظة في الماضي، عندما كان مصمماً على عدم تقديم أي تنازل لروسيا، من أجل وضع حد للحرب، لكن زيلينسكي قدم أول خطة سلام في نوفمبر 2022، بينما كان الجيش الأوكراني في قمة انتصاراته، وهي تشكل في جوهرها، وثيقة شروط الاستسلام للروس الذين كانوا – في ذلك الوقت يتخبطون – لكن هذا تغير الآن.
نبرة زيلينسكي
وبات الأوكرانيون هم الذين يتخبطون اليوم، وزيلينسكي يعرف ذلك وإن لم يعبّر عنه، وقد تغيرت نبرته بشكل ملحوظ على مدى الأشهر الثلاثة الماضية، والآن يتحدث الرئيس الأوكراني نفسه عن المفاوضات التي رفضها في أواخر 2022 و2023 باعتبارها السبيل الوحيد لإنهاء الحرب، خصوصاً الآن بعد أن عاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وبأجندة سلام خاصة به.
والسؤال المطروح الآن بالطبع، كيف سيبدو شكل هذه المفاوضات، وعما إذا كان لدى الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، القدرة على جمع زيلينسكي والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على طاولة المفاوضات، وكيف ستكون التسوية النهائية للحرب، ولا أحد يستطيع الإجابة عن هذه الأسئلة بأي درجة من التحديد في الوقت الحالي.
لكن حقيقة أن الدبلوماسية لم تعد تصنّف على أنها «استرضاء» من قبل الناس الجادين، بل أصبحت الآن جزءاً من المناقشة العامة، تشير إلى أن العقول أصبحت أكثر وعياً بما هو ممكن، وحتى الأوروبيين الذين يكتفون عادة بالجلوس على الأريكة وانتظار أوامر واشنطن لهم، بدأوا في اتخاذ بعض المبادرات، ففي منتصف ديسمبر الماضي، اجتمع زعماء أوروبيون في بروكسل لتبادل الأفكار حول نشر قوات حفظ سلام أوروبية في أوكرانيا، في حالة التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار.
وهذه أخبار جيدة، أما الأخبار السيئة فهي أن بعض هذه الأفكار التي لديها أفضل محاولة لتحقيق السلام الشامل أو على الأقل وقف الحرب، تظل مثيرة للجدل في العواصم الغربية، وبين كثير من المثقفين في مجال السياسة الخارجية، وأنا أتحدث بالطبع عن فكرة الحياد بالنسبة لأوكرانيا، وهي الصيغة التي تتطلب من كييف التوقف عن السعي إلى عضوية حلف شمال الأطلسي (ناتو)، أو اتفاقيات الدفاع المتبادل مع واشنطن وأوروبا.
خطر روسيا
وبالنسبة للكثيرين لايزال هذا جسراً بعيد المنال، وكتب أحد المحللين العسكريين الأوكرانيين لمجلة «أتلانتك كاونسل» في عدد نوفمبر الماضي، قائلاً: «الموافقة على مطالب بوتين بجعل أوكرانيا حيادية، ربما تقدم فترة راحة قصيرة من خطر روسيا، لكن ذلك سيؤدي في نهاية الطريق إلى مزيد من الحروب، وعلى الأرجح إلى انهيار النظام الأمني العالمي الحالي».
وأكد الخبير، فريد كاغان من معهد «أميركان إنتربرايز»، أن الحياد سيكون بمثابة تأييد «السيادة المقطوعة» لأوكرانيا، وهو ما يريده بوتين بالضبط.
لكن كل هذه الادعاءات غير صادقة، ففي البداية لا يعني مجرد كون دولة محايدة أنها عاجزة، بل على العكس من ذلك، إذ تظل أوكرانيا المحايدة قادرة على تعزيز العلاقات الاقتصادية مع الدول الأخرى، وبناء جيش هائل لصدّ العدوان، وتوسيع الاتفاقيات الدبلوماسية أو حتى توقيع ترتيبات التعاون الدفاعي مع الغرب.
وكل ما يعنيه هذا من حيث المبدأ، هو أن أوكرانيا لن يُسمح لها بالانضمام إلى كتلة عسكرية، مثل حلف شمال الأطلسي، وهو أمر لن يحدث على أي حال، في ظل المقاومة التي يبديها التحالف نفسه لمثل هذا الاحتمال، وباختصار فإن تنازل أوكرانيا عن عضوية حلف شمال الأطلسي أو أي ترتيب آخر يتضمن التزامات أمنية مماثلة، ليس سوى تأكيد للواقع.
وغالباً ما تكون للحيادية ضمن سياق الحرب في أوكرانيا مضامين سلبية، لكن هذه قراءة خاطئة للفكرة، فالحيادية ليست هي الخيار الوحيد الأمثل والأقل خطراً بالنسبة للولايات المتحدة وأوروبا، وإنما لمصلحة أوكرانيا أيضاً.
ضمانات أمنية
والتحالفات متقلبة ومتحولة، وعلى الرغم من صحة الفكرة التي مفادها أن بعض التحالفات يمكن أن تستمر لزمن طويل، فإنها لا تكون كذلك دائماً، ولا يُقصد منها أصلاً أن تكون كذلك، كما نصح مؤسس أميركا وأول رئيس لها، جورج واشنطن، بذكاء خلال خطاب الوداع الذي ألقاه للأمة عام 1796، وكانت هناك حالات عديدة في التاريخ عندما أدت الظروف الإقليمية أو الجيوسياسية المتطورة، أو تغيير النظام، إلى حل التحالفات أو جعلها غير ذات صلة.
وإذا صمدت التحالفات أمام الضغوط، فهناك دائماً شكوك في أن الحليف سيفي فعلياً بالتزاماته، عندما تصبح الأمور صعبة، ومن الناحية الفنية، يربط الصين وكوريا الشمالية، تحالف طويل الأمد، لكن على الرغم من هذه الوثيقة، فمن غير المرجح أن تقوم بكين بالدفاع عن زعيم كوريا الشمالية ورئيسها، كيم جونغ أون، إذا ما اختار الدخول في معركة مع الولايات المتحدة، وأفضل أمن يمكن أن تشتريه أي دولة هو الاستثمار في إمكاناتها الخاصة، وتحسين قدرتها العسكرية، وليس الاستعانة بقوى أجنبية في ما يتعلق بالسياسة الأمنية.
وتواجه أوكرانيا الورطة ذاتها، وحتى لو تلقت كييف ضمانات أمنية من «الناتو»، فهل تستطيع حقاً الاعتماد على حلفائها للتدخل، في حالة وقوع عدوان روسي آخر؟ يجب على مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية أن تفترض ذلك، لكن إذا حكمنا من خلال السنوات الثلاث الماضية، فإن هذه الثقة لا تستند إلى أدلة كافية، فقد قامت الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة وأعضاء آخرون في حلف شمال الأطلسي بتقديم كميات مهولة من الأسلحة إلى أوكرانيا، لكن تسليح دولة بعيدة لمقاومة روسيا، ليس مثل نشر قواتك الخاصة والذهاب إلى الحرب نيابة عن أوكرانيا.
وأظهر حلف شمال الأطلسي، مراراً وتكراراً، أنه على الرغم من استعداده للقيام بالفكرة الأولى فإنه لن يفعل الثانية، والمخاطر والتكاليف مرتفعة للغاية ببساطة، كما أن بوتين ليس غبياً، فهو يستطيع رؤية هذا بنفسه، فهل ينظر بوتين إلى الضمانات الأمنية الغربية على أنها ذات مصداقية؟.
وتعتبر أوكرانيا الحياد فوزاً كبيراً لها وليس خسارة، وبحكم تعريفها فهذا يعني أن أوكرانيا لن تكون تحت سيطرة موسكو، ومن المؤكد أنها لن تكون تحت سيطرة الغرب أيضاً. عن «ذي أميركان كونيسيرفاتف»
. حرب أوكرانيا ستدخل عامها الرابع في نهاية فبراير المقبل، ويُشار إليها على نطاق واسع باعتبارها حرب استنزاف.
. فكرة الحياد بالنسبة لأوكرانيا هي الصيغة التي تتطلب من كييف التوقف عن السعي إلى عضوية حلف «الناتو» أو اتفاقات الدفاع المتبادل مع واشنطن وأوروبا.