اخبار الكويت

أماكن كويتية بقلم د يعقوب يوسف الغنيم

هذه معلومات سريعة وموجزة عن بعض الأماكن الكويتية التي يكاد الناس ينسون أسماءها ومواضعها، ولقد كانت معروفة ومشهورة لدى الجميع إلى أن بدأت هذه الأسماء تضمحل وتحل محلها أسماء لا تمت بصلة إلى ماضي تلك الأماكن، وفي أغلب الأوقات فإن الذين طرحوا الأسماء الجديدة، وأشاعوها هم من غير الكويتيين الذين جاءوا إلى وطننا وهم لا يعرفون أسماء أماكننا وبدلا من أن يسألوا الناس عن ذلك، طرحوا أسماء أخرى من اختيارهم بعضها مرتبط بمبنى قريب للموقع أو طريق معروف يمر أحدهم به، وقد ألحوا على ذلك حتى صار الاسم الذي طرحوه هو الغالب. نحن الآن نريد أن نستذكر أسماء المواقع الكويتية التي تسلط عليها غيرنا، وغيروا في أسمائها، وسوف نبدأ بالأماكن التي تحتويها العاصمة ثم نخرج إلى الأماكن المتاخمة لها دون أن نذهب بعيدا، لأن التفصيل الكلي سوف يأخذ وقتا طويلا، إضافة إلى أننا قد سبق أن تحدثنا عن الأماكن البعيدة في مقالات الأزمنة والأمكنة التي قدمناها خلال السنوات الماضية، وذكرنا في تلك المقالات ما يغني. أما الآن فإننا نوالي حديثنا عن المواقع، وهو الحديث الذي وعدنا بذكره منذ هذه البداية، وأول ما نتحدث عنه هو:

– قصر السيف، وهو قصر الحكم في البلاد، ورمز الحكومة الكويتية، وكان مقرا لحكام الكويت، منذ أيام حكم الشيخ مبارك الصباح المتوفى سنة 1915م.

وهو من الرموز المعروفة حتى يومنا هذا، كما نرى أنه لا يزال قائما بدوره الذي تم إنشاؤه من أجله، بل ولقد عظمت أهميته، وازداد حجمه، وأضيفت إليه مبان مهمة فصار جديرا بما أنشئ له، إذ نراه الآن، وقد امتد من القسم القديم للقصر شرقا إلى أن احتل أرضا واسعة كانت تضم مبنى مجلس الوزراء القديم، وميناء الكويت والفرضة والمدرسة الأحمدية، ومما يجدر بنا ذكره هو أن إزالة كل هذه الأماكن التي احتلها المبنى الجديد الممتد شرقا وغربا على الساحل مباشرة، وهو الذي يطلق عليه حتى اليوم اسم قصر السيف على الرغم من هذا الامتداد والخروج عن الموقع القديم، وقد أعدت أماكن أخرى لبعض ما أزيل من تلك المباني، ولكننا – للأسف – قد وجدنا إزالات لا علاقة لها بمبنى قصر السيف، وهي إزالات نذكر منها ما حل بمبنيين تاريخيين مهمين، هما مسجد البحر الشمالي ومسجد العبدالجليل، وهما من أقدم مساجد الكويت، كما أنهما من الأمور الدالة على أقدمية نشأة البلاد. فقد تبين لنا أن المسجد الأول قد بني في حوالي سنة 1670م، وأن المسجد الثاني قد بني في سنة 1779م، وما كان لنا أن نفرط بهذين المبنيين وبخاصة أنهما لم يكونا عقبة في طريق، وليس لهما تأثير على مبنى مهم، وحتى لو كان لهما مثل هذا التأثير فإن بقاءهما أهم وأولى، لأن الأماكن التاريخية والأثرية لها أهميتها القصوى.

بني قصر السيف في سنة 1907م، لكي يكون مقرا لحاكم البلاد، يجلس في إحدى قاعاته لكي يبت في القضايا التي تحتاج منه إلى بت، وكان ذلك في أثناء وجود الشيخ مبارك الصباح على سدة الحكم كما أشرنا من قبل، ثم صار مقرا لأمراء الكويت من بعده حتى يومنا الحاضر، ولم يتعطل وضعه هذا إلا خلال فترة إقامة المباني الجديدة التي انتظمت مع المبنى القديم وصارت امتدادا له.

كان موقع هذا القصر – ولا يزال – مهما، له بوابة خارجية، وبوابة أخرى داخلية تطل على جون الكويت، وهي تزدان بالنقوش الجميلة، وتحيط بها حجارة من الآجر الأصفر المصفوف حولها، وعندما قرر الشيخ سالم المبارك الصباح المتوفى في سنة 1921م أن يجدد القصر، رأى أن من الأفضل أن توضع في أعلى هذه البوابة عبارة شهيرة هي: «لو دامت لغيرك ما اتصلت إليك».

وهي ثابتة إلى اليوم في مكانها، وكانت هذه العبارة مما كتبه أحمد بن هارون الرشيد لوالده، ولا شك في أنها عبارة تدل على أن الإنسان غير مخلد في هذه الدنيا، وأنها لا تدوم لأحد حتى يمكنها أن تدوم له.

ولقد شهد هذا القصر عددا من الاحتفالات الرسمية، واستقبل أمير البلاد فيه عددا من كبار الزوار، وكانت ساحته مجالا لاحتفالات يقوم بها طلاب المدارس في الماضي، وتلقى فيها الخطب المهنئة بالأعياد، والذاكرة لمآثر الشيخ.

وكانت هذه الساحة قد اشتهرت بسارية عالية يرتفع فوقها علم الكويت، وكان الأهالي يطلقون عليها اسم: «البنديرة»، وكان علم البلاد يرفع إلى أعلاها صباحا، ثم يخفض في المساء، وفق مراسم معينة، كان يقوم بها عدد من رجال الشرطة المكلفين بذلك.

هذا هو ما ينبغي أن نقوله عن قصر السيف أدام الله بقاءه، وحفظ أميرنا، وبلادنا من كل سوء.

بعد مبنى قصر السيف القديم الذي لا يزال أثره ماثلا لنا إلى الآن، وبالتحديد إلى الغرب من هذا المبنى ترد بعض المؤسسات المهمة ذات الارتباط بعمل الدولة، أولها مبنى كان يستغله مجلس الوزراء بعد أن كان مستغلا لدائرة الجمارك والموانئ، ثم يأتي ميناء الكويت الذي كان يشهد نشاط الاستيراد والتصدير منذ أمد طويل، وقد صار من العلامات الدالة على إمكانات البلاد في الإطار التجاري والاقتصادي، وسوف نتحدث عن هذا المرفق، ولكننا نضيف إلى ذلك أن مساحة منه كانت تستقبل السفن التي تأتي من أماكن قريبة، وهي تحمل الخضراوات والفواكه والأعلاف الخضراء، وكان هذا الموقع يسمى الفرضة، وهذا لفظ عربي فصيح معناه: الميناء البحري، وقد كررنا من قبل أن هذا اللفظ لا ينبغي أن يطلق إلا على الموقع المتاخم للبحر الذي ترسو به السفن، ولا يجوز إطلاقه على أي مكان آخر.

وقد اهتمت الجهات المختصة برعاية الفرضة اهتماما كبيرا لما تجلبه السفن الواردة إليها من مواد غذائية مهمة للناس جميعا، ولذا فقد وضع إلى جوارها مركز للشرطة أطلق عليه اسم: شرطة الميناء، وقد بقي هذا المركز عاملا إلى أن تغير مجمل المكان فيما بعد، وبعد ذلك يأتي فاصل ممتد من الساحل حتى داخل البحر يفصل نشاط الفرضة عن المرفق الذي يليها، وهو مرفق مهم لأنه يستقبل السفن الحاملة لمياه الشرب التي كانت تجلبه من الشمال، وتقدمه لكل من يأتي إلى هذا الموقع لشرائه ونقله إلى مستهلكيه.

وعندما تأسست شركة ماء الكويت في سنة 1939م، وصارت لها سفنها التي تنقل المياه بكميات كبيرة، بنيت مراكز لتوزيع هذه المياه، وكان كل مركز منها يدعى (بركة) وفي الموقع الذي أشرنا إليه آنفا (على الطريق مباشرة) بركة من تلك البرك، وهي عبارة عن صهريج اسمنتي، يخرج منه الماء بواسطة أنابيب معدة لذلك، يأتي إليها موزعو المياه فيأخذون ما يستطيعون حمله من ذلك، وكان لكل بركة في البلاد اسم، وهذه التي أشرنا إليها كان اسمها: بركة الغنيم، لأنها كانت على طرف فريج الغنيم الذي سماه أحدهم فريج الوسط، وهو مخطئ في ذلك، وكانت إدارة بلدية الكويت، هي التي تشرف على جميع هذه البرك، وتحدد نظام عملها، وأسعار المياه بها.

ويمتد البحر غربا لنجد مواقف أخرى لسفن من الحجم الصغير بعضها من سفن الصيد، وبعضها من السفن الجالبة للمواد الغذائية، وأمام مواقف السفن ساحة واسعة توضع فيها المنتجات الزراعية لكي تباع على الناس، وهي -أيضا – فرضة بالمعنى الحقيقي لذلك.

أما المرفق المهم الذي يلي هذه الفرضة فهو مبنى المدرسة الأحمدية، وهي ثاني مدرسة نظامية يتم إنشاؤها في الكويت بعد المدرسة المباركية، وكان ذلك مبنى يتميز بجودة الإنشاء، ويضم حديقة مشرفة على البحر، وفيه عدد من الفصول الدراسية التي تغطي حاجة العاصمة إلى المركز التعليمي الملائم.

* * *

ونعود الآن من حيث ابتدأنا فنتحدث عن الميناء الرئيسي المجاور لمبنى قصر السيف العريق، ومن مظاهر هذا الميناء مجموعة كبيرة من المخازن الضخمة المصنوعة من الحديد المكسو بألواح الزنك، توضع فيها البضائع فور وصولها إلى أن يقوم أصحابها باستخراجها وفقا للإجراءات المتبعة، وإلى جانب المرفأ سفن صغيرة الحجم نسبيا تنقل البضائع من السفن الكبرى إلى هذه المخازن وذلك لأن السفن الكبرى – آنذاك – لا تستطيع الوصول إلى أرصفة الميناء بسبب ضحالة المياه، وتتولى عملية النقل شركة أجنبية هي شركة النقل والتنزيل التي تسمى (حمال باشي)، وقد نشأت في البلاد فيما بعد شركة كويتية خالصة حلت محل الشركة الأجنبية وصارت تقوم بدورها.

وكانت الكويت بصفتها ذات موقع بحري فريد، قد ذكرت على ألسنة زوارها من الأجانب، وجرى الحديث بالتفصيل عن هذا الميناء الذي ذكرناه.

ومما ينبغي أن نثبته هنا هذا الوصف الذي ذكره أحد محبي الارتحال في سنة 1916م، وهو رجل هندي كان قاضيا، وعندما تقاعد من عمله أحب أن يمارس هوايته في زيارة البلدان، وكان عمره – آنذاك – قد بلغ السبعين، وكان اسمه: كرستيجي.

ولهذا الرجل كتاب يصف فيه بعض ما قام به من رحلات أصدره تحت عنوان: «أرض النخيل»، وقد كتب عن الكويت منذ أشرف عليها عند جزيرة كبر، إلى أن وصل إلى المرحلة الأخيرة من رحلته إلى بلادنا، ولقد قال عند وصوله: «دخلنا المرفأ الجميل الممتع، بحماية طبيعية حصينة، وألقينا مرساتنا هنا بعد الظهر بقليل، قبالة مدينة الكويت، حيث يظهر حسن البلاد واضحا ضمن الصف الطويل للمباني الممتدة بمحاذاة الشاطئ الرملي».

وكان وصفه لميناء الكويت – في ذلك الوقت – كما يلي: «رسونا بأقرب ما يمكن للباخرة أن تقترب إليه من الشاطئ بسلام، وذلك على بعد 3 أميال تقريبا من المدينة».

وكانت رحلة موفقة شاهد فيها البلاد وزار أميرها، وتنقل في أسواقها، وكان ميناؤها من أهم ما لفت نطره، وكان قد لفت أنظار من سبقه من الزوار.

* * *

هذا مكان من الأماكن الكويتية المشهورة باسمها القديم، ولاتزال محتفظة بهذا الاسم إلى يومنا هذا على الرغم من أن البعض يتجاهل ذلك، ولعل أهم ما أدى إلى هذا التجاهل هو عدم وجود مساكن للأهالي من أبناء الكويت في هذه المنطقة التي كانت في يوم من الأيام عامرة بالسكان، وكان لها أهلها المعروفون، ولكن الزمن غير معالم المكان، ونقل السكان إلى أماكن أخرى متباعدة، وبدأ الاسم يغيب عن الأذهان.

ولعل من أهم ما يدلنا على أن لهذا المكان وهو: (العاقول) أهلا كانوا يسكنون في بيوت بنيت فيه، قول الشاعر الشعبي فهد بورسلي في أبيات مغناة جاء في أولها:

شقول يا أهل الهوى شقول

هذا نصيبي من الخلان

ونصيبه من الخلان كان ساكنا في موقع بعيد عن الموقع الذي يعيش فيه شاعرنا، ولذلك فهو يتحسر قائلا:

أنا فهد من هل العاقول

والقلب ساكن فريج ثاني

إنه يشرح لنا سبب التباعد، ويبين لنا أنه كان في الفترة التي كتب فيها أبياته هذه من سكان منطقة العاقول، فدلنا على موقع سكناه ودلنا على أن العاقول كان موضع سكن يقطنه آخرون غيره.

وذكر مسجد العاقول والواقع أن المنطقة التي سوف نصفها خالية من المساجد إلا ما هو في طرفها، وحتى هذا الذي في الطرف له اسم مشهور به، وقد يكون هناك مسجد باسم مسجد العاقول ولكنه هدم مع ما هدم من مساجد الكويت، التي جرى عليها أمر الهدم دون داع لذلك.

فأين يقع العاقول؟ وما هو أصل هذا الاسم؟

يقع العاقول أو فريج العاقول كما كان الناس يقولون قديما في الجانب الشرقي من العاصمة، وإذا أردنا أن نصف الآن موقعه فهو في جزء من شارع جابر المبارك الصباح، ومعلوم أن هذا الشارع طويل يمتد إلى ساحل البحر، وكان العاقول يقع عند التقاء هذا الشارع بشارع الشيخ أحمد الجابر الصباح المتجه إلى قصر دسمان.

فعلى يمينك قبل أن تخرج إلى الشارع فتتجه إلى دسمان مبنى كبير كان العاقول يشغل الأرض التي بني عليها وما حولها.

ولقد شاهدت هذه الأرض، وكانت تمتلئ بأنواع من النباتات البرية، لأن مساكنها كانت متباعدة شيئا ما، وكان من بين تلك النباتات ما هو كثير الشوك لدرجة تتعب الماشي بلا حذاء، وهذا النبات هو المسمى: العاقول، ولكثرته في هذا المكان فقد أطلق اسمه على الحي بكامله.

وهذا هو ما يشير إلى أصل اسم الفريج، إذ من الجلي أنه سمي بهذا الاسم لكثرة ما فيه من أعشاب العاقول، وهذا النوع من الأعشاب معروف عندنا قديما، ومشهور بأنه مما ترعاه الإبل، إذ كانت الإبل ترعى الأنواع التي تكون فيها الأشواك من نباتات البر، ومنها نوع مشهور آخر هو: السعدان، وهو يرى في بادية الكويت كثيرا، وقد قيل لنا في بدايات الدراسة حينما كنا نتلقى دروسا في صفة الجمل أن شفته العليا مشقوقة، وذكروا أن هذا الأمر طبيعي، لأنه اعتاد أكل الأعشاب الشوكية، ووجود الشق في شفته العليا يسهل له الأكل، ولا يتأثر بالأذى الذي قد يلحق به من الشوك الجارح.

ويبدو أن إطلاق اسم العاقول على هذا النوع من النباتات إنما هو أمر محلي، فقد راجعت كتاب لسان العرب لابن منظور، وهو كتاب لا يترك لفظا عربيا دون أن يبين معناه، فلم يذكر العاقول وإن كان قد ذكر غيره من النباتات المشابهة له.

إن ما ذكره ابن منظور عن العاقول لا صلة له بالشوك، فقد ذكر في مادة (عقل) ما يطلق عليه اسم العاقول فقال هو:

عاقول البحر: أي معظمه، أو موجه.

وعاقول النهر والوادي والرمل: ما أعوج منه.

وذكر منعطف واد يسمى: عاقول.

ويقال أرض عاقول، وهي التي لا يهتدى بها.

هذا هو ما ورد عن لفظ العاقول في الكتاب المذكور، ولكن مما يشبه التأكيد أن تسميه الفريج هنا لم تأت لسبب من الأسباب التي تم ذكرها آنفا، ولكنها جاءت لسبب واضح لا ريب فيه وهو نبات العاقول الذي يكثر وجوده في هذا المكان.

وما دمنا قد ذكرنا نباتا مشابها للعاقول من حيث إنه شوكي، ومن حيث إنه ترعاه الإبل وهو السعدان، فلابد أن نتحدث عنه، وبخاصة أنه من نباتات البيئة وقد وجدناه في بر الكويت كثيرا.

السعدان نبات من النباتات التي نراها غِبّ الأمطار، وهي خضراء مستديرة تفترش الأرض وتخرج من بين أوراقها أشواك ذات شكل خاص فهي مستديرة يكون القسم الحاد منها منتشرا بحسب استدارتها.

وهي خضراء تصفر عند جفافها.

ورد ذكرها في كتاب «لسان العرب» الذي وصفها وصفا جيدا من جميع الوجوه، فقال:

«والسعدان نبت ذو شوك، ومنبته سهول الأرض، وهو من أطيب مراعي الإبل»، وهناك تفصيل آخر عن هذا النبات وعن وروده في أحاديث العرب وأمثالهم.

ولعل ما ذكرناه فيه الكفاية.

* * *

من أماكن الكويت التي يكاد ينسى اسمها اليوم على الرغم من أهميتها موقع ساحلي هو: «راس عجوزة»، وينطق الناس الجيم التي ترد في الاسم ياء فيقال: راس عيوزة، وهذه هي طبيعة لهجتنا التي يقلب فيها الجيم إلى ياء في بعض الأحيان.

عندما نسير على ساحل جون الكويت باتجاه الشرق، فإننا سوف نمر بقصر دسمان، ومن هنا يمتد بنا الطريق إلى أن يصل إلى رأس من الأرض داخل في مياه البحر بشكل مثلث وقد بنيت على هذا الرأس في السنوات الأخيرة أبراج الكويت الثلاثة المشهورة، وهذا هو: راس عجوزة.

ومن هنا يمتد الساحل بانحناء داخل اليابسة حتى يصل بنا إلى رأس الأرض الذي كان يطلق عليه اسم: الراس تخفيفا وسوف يكون لنا حديث عن هذا الموقع فيما بعد، ولكننا الآن سوف نتوقف عند الحديث عن راس عجوزة، الذي هو آخر نقطة من جون الكويت لأننا سوف ندخل فيما بعد إلى الخليج العربي، ويتسع أمامنا مدى البحر.

ولقد كان هذا الموقع من العلامات السعيدة للسفن الشراعية الكويتية القديمة، فهو يدل ركابها على وصولهم إلى وطنهم بعد طول غياب، وهم عندما تصل سفنهم بهم إلى هذه النقطة يتجهون إلى اليسار (غربا) إلى أن تكون سفنهم أمام واجهة المدينة، حيث يجدون الأماكن المخصصة لرسو هذه السفن، فتقف كل سفينة في الموضع الذي يحدده مالكها، وهنا تنتهي رحلة الموسم.

وصفت الرحالة الإنجليزية «فرياستارك» موقع راس عجوزة عندما زارت الكويت في زيارتين سوف نتحدث عنهما فيما بعد، فقالت: «في رأس الجون يقف الفنار الذي، وإن بدا منظره قبيحا نظرا لخشونة بنائه، فهو أحد الأشياء الحديثة النافعة، وأحد المعالم البحرية الضرورية لإبحار السفن في أمان، وإلى جانب الفنار نرى بعض القوارب القديمة التي يمكن أن نقول إنها صنعت قبل أن يعرف الإنسان لغة التخاطب، أو طهي الطعام، وتسمى هذه القوارب الأثرية «ورجيه»، وهي تصنع من سعف النخل، وقاعها مزدوج تغمر المياه الطبقة السفلى منه وبها شراع بسيط يساعد على الإبحار، ولا تحتاج هذه القوارب إلى طلاء أو مسامير، أو غير ذلك من أدوات بناء السفن، بل تربط بالحبال، وهي عادة ما تستعمل لصيد السمك في المناطق القريبة من الساحل، وترقد هذه القوارب على حافة الجون، وبين صخوره تراقب السفن الكبيرة وهي تشق صفحة المياه غادية ورائحة، بينما تستسلم هذه القوارب لنوم هادئ قد يكون نوما مستمرا إلى الأبد».

ويدلنا قولها هذا على ما يلي:

أ- مقدرتها العالية على الملاحظة، ودقة الوصف.

ب- قد تكون هي أوفى من كتب عن الورجية التي تكاد تختفي من الحياة في هذه الأيام لولا وجود أعداد قليلة منها لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، ولولا وجود صناع لها في سلطنة عمان.

ج- لم تتردد في السؤال عن بعض ما لفت نظرها، إذ نراها تذكر القوارب من نوع الورجية بعد أن شدت انتباهها، ثم تتساءل عن مالك ما رأته منها، فتذكره لقرائها وقد قالت إن هذا هو حارس الفنار.

د- تدل أقوالها على أن المنطقة التي وصفتها كانت وقت زيارتها لها أرضا خالية من المباني، ولكنها كانت ملأى بالصخور البحرية التي كانت تضم بين جوانحها قوارب الصيد من نوع «الورجية».

هـ- ولم تنس الإشارة إلى أن هذا النوع من القوارب قد تم الاستغناء عنه. وهذا – أيضا – يدلنا على أن التخلي عن الورجية كان قديما إذا عرفنا أن الكاتبة كانت تتحدث عن الفترة التي زارت فيها الكويت، وهي فترة متقدمة فقد جرت في آخر تاريخ لها هو سنة 1937م.

تعمدنا الإطالة في الحديث عن الورجية باعتبارها أثرا كويتيا من آثار مهنة صيد السمك قديما، ولن نجد فرصة للحديث عنها أفضل من هذه الفرصة، فقد تحدثت «فريا ستارك» أولا عن راس عجوزة الذي هو أحد موضوعات هذا المقال، ثم أخذت في وصف الموقع بما فيه من أدوات الصيد وقواربه التي كانت تلفت النظر لقدمها حتى لقد ظنت أن هذا النوع من القوارب قد صنع قبل أن يعرف الإنسان لغة التخاطب، أو طهي الطعام.

بهذا يكون ما نقلنا عن هذه الكاتبة قد أفادنا إفادة مزدوجة، وأمتعنا وصفها غاية الإمتاع.

و«فريا ستارك» شخصية متميزة من عدة وجوه، فهي متعلمة راقية التعليم، ومثقفة عميقة الثقافة، وهي محبة للاطلاع على شؤون الحياة ومعرفة الناس والاختلاط بهم.

ولدت في سنة 1893م في باريس، ونشأت في إيطاليا وتعلمت اللغة العربية منذ سنة 1921م، واستطاعت في سنة 1922م أن تقرأ القرآن الكريم، وتخرجت في كلية اللغات الشرقية بلندن، وكان أساتذتها من كبار الأساتذة الذين عرفتهم الدراسات الشرقية.

و«فريا ستارك» امرأة شديدة النشاط متعددة الاهتمامات، كان لها من أجل ذلك سفر متواصل لعدد من البلدان، وألفت عددا من الكتب التي ضمت تجاربها، ونشرتها جميعها، وتوفيت بعد جهد كبير في مجال اهتماماتها في شهر مايو لسنة 1993م.

وضمن رحلاتها المتعددة حول العالم زارت الكويت مرتين كانت أولاهما في سنة 1932م وكانت الثانية في سنة 1937م.

وكتبت في كلتا الرحلتين رسائل وتقارير عن زيارتيها، والتقطت صورا ذات أهمية قصوى بالنسبة لتاريخ الكويت. وما ورد هنا إنما هو جزء يسير من إشاراتها إلى ما لاحظته في إحدى هاتين الزيارتين.

وإلى اللقاء في مكان آخر من الأماكن الكويتية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى