مانموهان سينج.. من هو رئيس الوزراء الهندي طيب القلب الذي قاد
12:16 ص
الأحد 29 ديسمبر 2024
بي بي سي
من الصعب أن نتصور أن هناك سياسي خجول، إلا إذا كان هذا السياسي هو مانموهان سينج.
فمنذ وفاة رئيس الوزراء الهندي السابق الخميس الماضي، تحدث الكثيرون عن “السياسي اللطيف الهادئ” الذي غيّر مجرى التاريخ الهندي وأثر في حياة ملايين الناس.
ورغم المسيرة المهنية المتميزة، إذ كان محافظاً للبنك المركزي الهندي ووزيراً للمالية قبل أن يتولى رئاسة الوزراء، لم يظهر سينج أبداً في صورة السياسي الكبير، مفتقراً إلى القدرة على الزهو بنفسه أمام الجميع كأمثاله من السياسيين في الهند.
ورغم العدد الكبير من المقابلات الإعلامية والمؤتمرات صحفية، لاسيما خلال فترة ولايته الأولى كرئيس للوزراء، اختار سينج الصمت حتى عندما كانت حكومته غارقة في الفضائح، وفي أوقات واجه فيها أعضاء في حكومته اتهامات بالفساد.
وكانت طبيعته اللطيفة محل استنكار وتقدير على حد سواء.
وقال مؤيدوه إنه كان حريصاً على تفادي خوض معارك لا طائل من ورائها أو إطلاق وعود مبالغ فيها، وإنه كان يركز على النتائج ــ وربما كان أفضل مثال على ذلك هو الإصلاحات الداعمة للأسواق التي بدأها كوزير للمالية، والتي أدت إلى انفتاح اقتصاد الهند على العالم.
وقال زميله السابق في حزب المؤتمر كابيل سيبال في وقتٍ سابقٍ: “لا أعتقد أن أحداً في الهند يعتقد أن مانموهان سينج يمكن أن يرتكب خطأً أو يتورط في ممارسات فساد، لقد كان حذراً للغاية، وكان دائماً يحرص على تحري الصواب والالتزام بالقانون”.
من جهةٍ أخرى، كان خصومه السياسيون يسخرون منه ويرفضون طريقته التي رأوا أنها تتسم بغموض لا يليق بسياسي، ناهيك عن رئيس وزراء دولة يبلغ تعداد سكانها أكثر من مليار نسمة، وكثيراً ما أصبح صوته الأجش الهامس وأنفاسه المتقطعة أثناء الكلام مادة للسخرية أيضاً.
ومع ذلك، فإن هذا الصوت نفسه كان يحبه الكثيرون ممن يرون أن له صلة وثيقة بعالم السياسة في وقت كانت فيه الخطب الرنانة هي القاعدة.
وعلى مدار مسيرته المهنية، لم تفارق مانموهان سينج صورة السياسي المتواضع الانطوائي الخجول أمام وسائل الإعلام، حتى عندما مر معاصروه، بما في ذلك أعضاء حزبه، بدورات درامية لتحسين صورهم أمام الشعب.
ومع ذلك، فإن الكرامة التي كان يتعامل بها مع كل موقف، حتى المواقف الصعبة، هي التي جعلته شخصية لا تنسى.
وُلِد سينج لأسرة فقيرة فيما يُعرف الآن بباكستان، وكان أول رئيس وزراء من طائفة السيخ في الهند، وهو رجل اقتصاد تلقى تعليمه في جامعتي كمبريدج وأكسفورد وتغلب على الصعاب التي ترقى إلى حد المستحيل ليصعد إلى مراتب عليا، وكانت قصته إلى جانب صورته كزعيم أمين ومتبصر، سبباً في تحوله إلى بطل في نظر الطبقات الوسطى في الهند.
وفي 2005، فاجأ الجميع عندما قدم اعتذاراً علنياً في البرلمان عن أعمال الشغب التي اندلعت عام 1984 والتي قُتل فيها حوالي 3000 شخصاً من السيخ.
واندلعت أعمال الشغب تلك، التي اتُهم العديد من أعضاء حزب المؤتمر بارتكابها، بعد اغتيال رئيسة الوزراء آنذاك أنديرا غاندي على يد حراسها الشخصيين من السيخ، وقال أحدهم في وقت لاحق إنهم أطلقوا النار على السياسية من حزب المؤتمر للانتقام من العمل العسكري الذي أمرت به ضد الانفصاليين المختبئين في أقدس معبد للسيخ في أمريتسار شمالي البلاد.
وكان ذلك الاعتذار خطوة جريئة؛ فلم يسبق لأي رئيس وزراء آخر، بما في ذلك من حزب المؤتمر، أن أقدم على مثلها، كما كانت هذه الخطوة بمثابة تضميد لجراح المجتمع السيخي في الهند، إذ لقي رئيس وزراء البلاد إشادة بهذا الفعل الذي ينطوي على الكثير من الشجاعة من سياسيين من مختلف الانتماءات الحزبية.
وبعد سنوات قليلة، في عام 2008، أشاد كثيرون بأسلوب سينج البسيط في القيادة عقب توقيع اتفاق تاريخي مع الولايات المتحدة، أنهى عزلة الهند النووية التي استمرت لعقود طويلة، ما سمح للهند بتطوير تكنولوجيا نووية مكنتها من الحصول على وقود لأول مرة منذ بداية الاختبارات في عام 1974.
وواجهت هذه الصفقة وابلاً من الانتقادات من قبل زعماء المعارضة وحلفاء سينج أنفسهم، إذ كانت لديهم مخاوف حيال أن يؤدي هذا الاتفاق إلى تقويض السياسة الخارجية الهندية؛ لكن سينج نجح في إنقاذ حكومته والصفقة معاً.
وشهدت الفترة ما بين 2008 و2009 اضطرابات مالية عالمية، لكن سياسات سينج كان لها الفضل في حماية الهند من تبعات أزمة الاقتصاد العالمي.
وفي 2009، قاد حزبه إلى فوز ساحق وعاد كرئيس للوزراء لفترة ولاية ثانية، ما عزز صورته كزعيم طيب القلب، أو بالأحرى، رسخ لفكرة مثيرة للاهتمام تتضمن أن القادة يمكن أن يكونوا طيبي القلب.
بالنسبة للكثيرين، كان سينج يجسد الفضيلة؛ فهو “رئيس الوزراء المتردد” الذي ظل بعيداً عن الأضواء ورفض الظهور في أي إطار درامي للتأثير على المواطنين، لكنه في نفس الوقت لم يخشَ أبداً اتخاذ قرارات جريئة من أجل مستقبل بلاده.
لكن الأمور بدأت تتدهور بعد ذلك.
فقد ظهرت سلسلة من مزاعم الفساد، أولاً حول استضافة دورة ألعاب الكومنولث، ثم التخصيص غير القانوني لحقول الفحم، حزب المؤتمر وحكومة سينج، والتي تبين فيما بعد أن بعضها غير صحيح أو مبالغ فيه، وما زالت بعض القضايا التي تعود إلى تلك الفترة منظورة أمام المحاكم.
بدأت الضغوط تتراكم على كاهل سينج في تلك الفترة؛ فخلال فترة ولايته، بذل جهوداً في إطار مساعي للمصالحة مع باكستان، جارة الهند اللدودة، على أمل إذابة الجليد في العلاقات الفاترة التي استمرت على ذلك الوضع لعقود من الزمن.
وأثار ذلك النهج تساؤلات ملحة في 2008 عندما أدى هجوم إرهابي قادته جماعة مقرها باكستان إلى مقتل 171 شخصاً في مدينة مومباي.
هذا الحصار الذي استمر 60 ساعة والذي يعد أحد أكثر الأعمال الإرهابية دموية في تاريخ البلاد، فتح الباب أمام وابل من الاتهامات الموجهة للحكومة، إذ ألقت المعارضة اللوم على “الموقف المتراخي” للحكومة تجاه الإرهاب في التعامل مع هذه المأساة.
وفي السنوات التالية، اتخذ سينج قرارات أخرى أتت بنتائج عكسية.
وفي 2011، هزت حركة مناهضة للفساد بقيادة الناشط الاجتماعي آنا هازاري حكومة سينج، في وقتٍ تحول فيه الزعيم السياسي البالغ من العمر 72 سنة إلى رمز للطبقة الوسطى، إذ طالب بقوانين صارمة لمكافحة الفساد في البلاد.
وباعتباره بطلاً من الطبقة الوسطى، كان من المتوقع أن يتعامل سينج مع مطالب هزاري بقدر أكبر من الفطنة، ولكن رئيس الوزراء حاول بدلاً من ذلك قمع الحركة، فسمح للشرطة باعتقال هزاري وتفريق مظاهرته.
وأثارت هذه الخطوة موجة من العداء العام والإعلامي ضده، وتساءل أولئك الذين أعجبوا ذات يوم بأسلوبه البسيط عما إذا كانوا قد أخطأوا في الحكم على هذا السياسي اللطيف وبدأت نظرتهم إلى أساليبه الهادئة تتغير إلى حدٍ كبيرٍ.
وتصاعد هذا الشعور في العام التالي عندما رفض سينج التعليق على جريمة الاغتصاب الجماعي المروعة وقتل امرأة شابة في دلهي لأكثر من أسبوع.
وتفاقم الوضع بسبب تباطؤ النمو الاقتصادي في الهند، وتفشي الفساد وتراجع الوظائف، الأمر الذي أشعل موجات من الغضب الشعبي، ووصف البعض آنذاك شخصية سينج المتواضعة، التي كانت تجعل كل تحركاته تبدو وكأنها اكتشاف مذهل، بأنها تعكس الرضا عن الذات والتردد وحتى الغطرسة.
ومع ذلك، لم يحاول سينج الدفاع عن نفسه أو تفسير تصرفاته، ما أدى إلى مواجهته المزيد من الانتقادات التي تلقاها بهدوء كعادته.
واستمر هذا الحال حتى عام 2014. وفي مؤتمر صحفي نادر، أعلن أنه لن يسعى إلى الترشح لولاية ثالثة.
ولقد حاول أيضاً تصحيح الأمور؛ فقال بعد أن ذكر بعضاً من أعظم الإنجازات التي حققها خلال فترة ولايته: “أعتقد بصدق أن التاريخ سوف يحكم عليّ بقدر أعظم من اللطف مقارنة بوسائل الإعلام المعاصرة، أو حتى أحزاب المعارضة في البرلمان”.
ويبدو أنه كان محقاً.
في النهاية، لم يتمكن حزب المؤتمر ولا سينج من التعافي بالكامل من الأضرار التي لحقت بهما بعد خسارتهما الانتخابات العامة أمام حزب بهاراتيا جاناتا، وعلى الرغم من العقبات الكثيرة، ظلت صورة سينج كزعيم طيب القلب وفطِن، ثابتة في أذهان المواطنين في الهند.
وطوال فترة توليه منصب رئيس الوزراء، وعلى الرغم من ولايته الثانية التي شابها الجدل، حافظ سينج على هالة من الكرامة الشخصية والنزاهة.
وكان يُنظر إلى سياساته على أنها تركز على الطبقة الوسطى والفقراء؛ فقد وافق على زيادات كبيرة في رواتب الموظفين في الحكومة المركزية، وحافظ على التضخم تحت السيطرة، ونفذ خططاً مهمة على صعيد التعليم والوظائف.
وربما لم يكن كل ذلك كافياً لإخراجه من معضلات السياسة أو حمايته من الإخفاقات التي واجهها على مدار حياته المهنية.
ومع ذلك، كان هناك الكثير وراء خجله؛ إذ كان قائداً ذا عزم فولاذي.