العنف ضد النساء والأطفال.. كارثة صحية صامتة تهدد المجتمعات

كشفت دراسة حديثة ومؤثرة عن حجم المعاناة الهائلة الناتجة عن العنف ضد المرأة والطفل، مؤكدةً أنهما يشكلان أزمة صحية عالمية متفاقمة تتطلب تحركاً عاجلاً وشاملاً. الدراسة، التي نشرها باحثو معهد قياس وتقييم الصحة (IHME) التابع لجامعة واشنطن في مجلة The Lancet، تسلط الضوء على الأبعاد المدمرة لهذه الظواهر المهملة، والتي تؤثر بشكل كبير على صحة ورفاهية الأفراد والمجتمعات في جميع أنحاء العالم. هذه القضية، التي غالباً ما تُختزل في إطار اجتماعي أو جنائي، تستحق أن تُعامل كأولوية صحية عامة قصوى.
العنف ضد المرأة والطفل: أزمة صحية عالمية غير مسبوقة
تُظهر الإحصائيات المروعة التي كشفت عنها الدراسة أن أكثر من مليار شخص تجاوزوا سن الخامسة عشرة تعرضوا للاعتداء الجنسي في مرحلة الطفولة. بالإضافة إلى ذلك، عانت 608 ملايين امرأة وفتاة من العنف الجسدي أو الجنسي على يد شركائهن الحميمين. هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات، بل هي قصص مأساوية لأفراد يعانون من آثار مدمرة على صحتهم الجسدية والنفسية.
حجم الخسائر الصحية الناتجة عن العنف
لقد أدت هذه التجارب المؤلمة إلى فقدان ما يزيد عن 50 مليون سنة من الحياة الصحية (DALYs) على مستوى العالم. هذا المؤشر، الذي يجمع بين سنوات الحياة المفقودة بسبب الوفاة المبكرة وسنوات العيش مع الإعاقة، يوضح بشكل قاطع التأثير الهائل للعنف على الصحة العامة. العنف الأسري ليس مجرد مشكلة شخصية، بل هو عبء ثقيل على الأنظمة الصحية والاقتصادية في جميع أنحاء العالم.
تأثير العنف على صحة المرأة
أظهرت الدراسة أن العنف ضد النساء يمثل عاملاً رئيسياً في تقليل سنوات العمر الصحية للمرأة في سن الإنتاج (15-49 عاماً). تأثيره يتجاوز حتى عوامل الخطر الشائعة مثل ارتفاع ضغط الدم والسكري، مما يجعله تهديداً خطيراً لصحة المرأة وقدرتها على المساهمة في المجتمع.
التداعيات الصحية للعنف ضد النساء
يرتبط العنف ضد النساء بمجموعة واسعة من المشكلات الصحية، بما في ذلك:
- الوفيات المباشرة: الانتحار وجرائم القتل، حيث تشير التقديرات إلى مقتل 30 ألف امرأة على أيدي شركائهن في عام واحد.
- الاضطرابات النفسية الشديدة: القلق، الاكتئاب، الفصام، وإيذاء النفس واضطرابات تعاطي المخدرات.
- حالات الوفاة الإجمالية: العنف الجنسي ضد الأطفال مرتبط بنحو 290 ألف وفاة عالمياً، بينما تسبب عنف الشريك الحميم في 145 ألف وفاة إضافية.
الحاجة إلى تغيير جذري في السياسات العامة
تؤكد هذه النتائج القاطعة أن العنف القائم على النوع الاجتماعي والعمر يتجاوز كونه قضية اجتماعية أو جنائية، بل هو أولوية صحية عامة كبرى تستوجب تدخلات شاملة. يجب على صانعي السياسات وقادة العالم التعامل مع هذه الأزمة بنفس الالتزام والتمويل الذي يُمنح لمواجهة أي وباء آخر يهدد حياة الملايين.
التدخلات الضرورية لمكافحة العنف
تتطلب مكافحة العنف ضد المرأة والطفل مجموعة متكاملة من التدخلات، بما في ذلك:
- التشريعات الفعالة: سن قوانين صارمة تجرم جميع أشكال العنف وتضمن حماية الناجين.
- برامج التعليم الشاملة: توعية المجتمعات حول مخاطر العنف وأهمية المساواة بين الجنسين.
- التمكين الاقتصادي للمرأة: توفير فرص عمل وتعليم للمرأة لزيادة استقلاليتها وتقليل تعرضها للعنف.
- توفير رعاية صحية نفسية وجسدية: تقديم الدعم العاجل والطويل الأمد للناجين من العنف لمساعدتهم على التعافي والتغلب على الصدمات.
نحو مستقبل خالٍ من العنف
إن معالجة هذه القضية المعقدة تتطلب جهوداً مشتركة من الحكومات والمنظمات غير الحكومية والمجتمعات المحلية والأفراد. يجب علينا جميعاً أن نتحمل مسؤوليتنا في خلق بيئة آمنة وداعمة للجميع، وأن نعمل معاً للقضاء على العنف المنزلي وجميع أشكال العنف ضد المرأة والطفل. إن الاستثمار في الوقاية والاستجابة للعنف ليس مجرد واجب أخلاقي، بل هو أيضاً استثمار في صحة وازدهار المجتمعات في جميع أنحاء العالم.
من الضروري أن نواصل البحث والدراسة لفهم أعمق لأسباب العنف وتداعياته، وأن نطور استراتيجيات فعالة لمكافحته. دعونا نلتزم بالعمل معاً لبناء مستقبل خالٍ من العنف، حيث يتمتع كل فرد بالحق في العيش بكرامة وأمان.












