لماذا ستستمر الصين بالدفع نحو تعزيز قيمة اليوان؟

بعد مرور عقدين على بدء الصين السماح بتقلب عملتها، اليوان، تجد السلطات نفسها مجدداً في مواجهة ضغوط لكبح ارتفاع قيمته. هذا يعيد إلى الأذهان أن قرار عام 2005 بفك الارتباط عن الدولار، على الرغم من كونه خطوة تاريخية، إلا أنه جاء مشروطاً ومراقبًا عن كثب. وبينما لم تنحسر بكين عن ساحة سوق الصرف الأجنبي، فإن التدخلات الأخيرة التي قامت بها السلطات تستحق التأمل، إذ تشير إلى رغبة في الحفاظ على الميزة التنافسية للصادرات الصينية، بالتزامن مع مخاوف من أن أداء الاقتصاد المحلي قد يكون أضعف من المؤشرات الرسمية المعلنة.
اليوان والصادرات الصينية: توازن دقيق
تعتبر الصادرات محركًا رئيسيًا للاقتصاد الصيني، وتسعى الحكومة جاهدة للحفاظ على هذا المحرك في عمل. وقد شهدت الصادرات الصينية ارتفاعًا ملحوظًا في نوفمبر الماضي، متجاوزة التوقعات، كما أن الفائض التجاري تجاوز تريليون دولار للمرة الأولى. ومع ذلك، تشير التوقعات إلى أن البيانات الاقتصادية المحلية التي ستصدر لاحقاً هذا الشهر قد تكشف عن صورة اقتصادية أكثر تراجعًا، مما يخلق معضلة أمام صناع القرار.
على الرغم من هذه المعضلة، لم يكن أداء اليوان سيئًا في عام 2024، حيث ارتفع بنحو 4% مقابل الدولار، ويتجه نحو تسجيل أفضل أداء سنوي له منذ خمس سنوات. إلا أن هذه المكاسب تبدو متواضعة نسبيًا مقارنةً بالضعف النسبي الذي يشهده الدولار. في المقابل، حققت عملات أخرى في المنطقة مثل الرينغيت الماليزي والبات التايلاندي والدولار السنغافوري والتايواني أداءً أقوى بكثير. يبدو أن المستثمرين يتطلعون إلى ارتفاع قيمة اليوان، لكنهم يواجهون مقاومة من بنك الشعب الصيني.
تدخلات بنك الشعب الصيني في سوق الصرف
يلجأ بنك الشعب الصيني إلى عدة أدوات للتدخل في سوق الصرف والتأثير على قيمة اليوان. من أبرز هذه الأدوات تحديد سعر مرجعي للعملة، وهو السعر الذي يحاول المتعاملون التنبؤ به لبدء التداول اليومي. في الأسبوع الماضي، كان سعر التثبيت أقل بكثير من المتوقع، كما عززت البنوك الحكومية هذا التوجه من خلال شراء الدولار بهدف كبح ارتفاع اليوان.
يجب التذكير بأن حجم تداول العملات الأجنبية في الصين قد ارتفع بشكل كبير ليصل إلى 9.6 تريليون دولار يوميًا، مقارنةً مع 1.9 تريليون دولار في عام 2005 عندما تم إلغاء نظام التثبيت. وسعر الصرف الحالي للدولار مقابل اليوان يقارب 7 يوانات.
لماذا تتردد الصين في السماح بارتفاع اليوان؟
لا يتعلق الأمر برفض الصين لارتفاع سعر الصرف بحد ذاته، بل بالوتيرة والسرعة التي يحدث بها هذا الارتفاع. ترى الحكومة الصينية أن القرارات المتعلقة بالعملة يجب أن تعكس المصالح الوطنية الشاملة، وأن تحافظ على قوة الصادرات كعنصر أساسي في سياستها الاقتصادية. ففي الوقت الذي يضغط فيه العالم من أجل رفع قيمة اليوان، ترى الصين أن هذا الأمر يجب أن يتم بحذر وتحت ظروف اقتصادية مواتية.
هناك أيضًا عوامل أخرى تلعب دورًا في هذا التردد، مثل الرغبة في الحفاظ على انتعاش أسواق الأسهم المحلية، وتخفيف حدة التوترات التجارية مع الولايات المتحدة. فارتفاع قيمة اليوان قد يجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية، ويساهم في تحسين العلاقات التجارية مع واشنطن.
الصين والولايات المتحدة: ملف العملة في المحادثات التجارية
لطالما وجه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب انتقادات للصين، متهمًا إياها بالتلاعب بعملتها لإضعافها بشكل مصطنع واكتساب ميزة غير عادلة في التجارة. ومع ذلك، في الجولة الأخيرة من المحادثات بين البلدين، لم يكن اليوان نقطة خلاف رئيسية، وتم تخفيض الرسوم الجمركية بينهما.
يبدو أن البلدين يسعيان إلى التوصل إلى اتفاقيات جزئية بشكل دوري لتجنب التصعيد في العلاقات. وقد يؤدي عدم السماح بارتفاع اليوان إلى تعريض هذا التقدم النسبي للخطر.
توقعات بارتفاع قيمة اليوان
يدعو العديد من الخبراء والمحللين الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى السماح لارتفاع قيمة اليوان. تشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أن اليوان قد يكون مقومًا بأقل من قيمته الحقيقية بنسبة تصل إلى 18%. وتتوقع بعض البنوك الكبرى، مثل مجموعة “غولدمان ساكس”، ارتفاعًا في قيمة اليوان في العام المقبل.
ويرى اقتصاديون صينيون بارزون أن هناك مجالًا لارتفاع قيمة اليوان، وأن هذا الارتفاع قد يساعد في تحفيز الطلب المحلي، وهو ما تحتاجه الاقتصاد الصيني بشدة. ففي الوقت الحالي، يعاني الاقتصاد الصيني من ضعف الطلب المحلي، وتراجع مبيعات التجزئة، والإنتاج الصناعي، والتوظيف، والركود في الاستثمار.
إعادة توازن الاقتصاد الصيني
ترتكز فكرة إعادة توازن الاقتصاد الصيني بعيدًا عن الاعتماد المفرط على الصادرات على رفع قيمة العملة، وهي فكرة ليست جديدة. فقد كانت هذه الفكرة من بين الحجج الداعمة لإصلاح قواعد التجارة في عام 2005. والمقصود بإعادة التوازن هو جعل الاستهلاك المحلي والاستثمار الداخلي المحركين الرئيسيين للاقتصاد الصيني.
ومع ذلك، يجب على الصين أن تتعامل مع هذا الأمر بحذر، وأن تتجنب أي تحركات مفاجئة قد تؤدي إلى اضطرابات في الاقتصاد. فمن الضروري مواصلة دعم الصادرات، مع العمل في الوقت نفسه على تعزيز الطلب المحلي، وتحسين بيئة الاستثمار، وخلق فرص عمل جديدة. فالهدف هو تحقيق نمو اقتصادي مستدام وشامل، يستفيد منه جميع المواطنين.
الخلاصة
إن مستقبل قيمة اليوان يظل غير مؤكدًا، ويتوقف على مجموعة متنوعة من العوامل الاقتصادية والسياسية. على الرغم من أن الصين قد تتردد في السماح بارتفاع كبير في قيمة عملتها في الوقت الحالي، إلا أن هذا الأمر قد يصبح ضروريًا في المستقبل لتحقيق إعادة توازن للاقتصاد الصيني، وتلبية متطلبات النمو المستدام. فهل ستتمكن بكين من إيجاد التوازن الدقيق بين الحفاظ على قوة الصادرات وتحفيز الطلب المحلي؟ هذا هو السؤال الذي يطرح نفسه في الأيام القادمة.












