اخبار الاقتصاد

إصلاح مصارف سوريا.. ولادة من الخاصرة

بعد أعوام من التدهور والانعزال، تعود جهود إصلاح القطاع المصرفي السوري إلى الواجهة في محاولة جريئة -لا تحتمل الفشل- لإنعاش جهاز هشّمته الحرب. لكن المهمة تبدو عصيبة، أقرب إلى “ولادة من الخاصرة”، لقطاع خسر أهم مقومات استقراره: الودائع والثقة. فكيف يمكن إعادة بناء هذا القطاع الحيوي في ظل التحديات الاقتصادية والسياسية الراهنة؟

تاريخ القطاع المصرفي السوري: من الانفتاح إلى الانهيار

على مدار العقدين الماضيين، تبدّل وجه القطاع المصرفي السوري مرات عدة؛ من انفتاح حذر مطلع الألفية سمح بدخول المصارف الخاصة والأجنبية، إلى نمو سريع في الأصول والودائع والقروض رغم بقاء الهيمنة بيد البنوك الحكومية. هذا النمو لم يكن مستداماً، فمع اندلاع الحرب عام 2011، وصل القطاع إلى نقطة الانهيار. تراجعت الثقة بشكل حاد، انسحب المستثمرون، تبخرت الودائع، وارتفعت نسب الديون المتعثرة، بينما ازدهرت سوق موازية للعملات تعكس هشاشة النظام المالي في اقتصاد مضطرب.

هيكل القطاع المصرفي السوري: تعدد الكيانات وتفاوت الأدوار

يتوزع القطاع المصرفي السوري حالياً بين بنوك عامة وخاصة، ولكل منها هيكل مهام خاص بها. يتكون القطاع من نحو 21 بنكاً، تتوزع بين 6 بنوك حكومية و15 بنكاً خاصاً. البنوك العامة تشمل المصرف التجاري السوري، المصرف الصناعي، المصرف الزراعي التعاوني، مصرف التسليف الشعبي، المصرف العقاري، ومصرف التوفير. هذه البنوك تلعب دوراً رئيسياً في تمويل القطاعات الاستراتيجية للاقتصاد.

أما المصارف الخاصة، والتي يعود نشأتها إلى بدايات العقد الأول من الألفية، فتجمع بين الصيغة التقليدية والإسلامية، ومن أبرزها: بنك سورية والمهجر، بنك بيمو السعودي الفرنسي، بنك سورية والخليج، بنك قطر الوطني (QNB) – سورية، مصرف فرنسا (سورية)، البنك الدولي الإسلامي في سورية، وبنك الشام الإسلامي. تتميز هذه البنوك بعلاقات شراكة مع مؤسسات مالية أجنبية، معظمها من لبنان، وفي الوقت نفسه تواجه بعضها عقوبات دولية أثرت على نطاق عملها الخارجي.

توقعات التوسع في القطاع المصرفي السوري

رغم أن عدد المصارف الخاصة لم يشهد تغيرات جوهرية منذ عام 2010، إلا أن مطلع عام 2025 شهد مؤشرات على توسع مرتقب. أعلن حاكم مصرف سورية المركزي، عبد القادر حصرية، أن الحكومة تستهدف مضاعفة عدد البنوك التجارية بحلول عام 2030. بالتوازي مع ذلك، بدأت بنوك أجنبية إجراءات الحصول على التراخيص اللازمة لتقديم خدماتها في السوق السورية. هذا التوجه يعكس رغبة في زيادة المنافسة وتحسين جودة الخدمات المصرفية.

الحرب وتداعياتها المدمرة على البنوك السورية

تسببت الحرب التي اندلعت عام 2011 في واحدة من أشد الهزات التي تعرض لها القطاع المصرفي السوري. تدهورت أعمال البنوك بشكل ملحوظ، وانهارت الثقة، وفقدت البيئة الاستقرار الضروري للعمل المالي. تحوّلت الزيادة الاسمية في الأصول إلى انخفاض حاد عند احتسابها بالدولار. تراجعت أصول القطاع المصرفي الخاص من 13.8 مليار دولار مطلع 2011 إلى 5 مليارات دولار فقط بحلول سبتمبر 2013، بينما انخفضت الودائع من 11 مليار دولار إلى 3 مليارات دولار. ارتفعت نسبة الديون المتعثرة بشكل كبير، مما اضطر البنوك إلى شطب أجزاء كبيرة من محافظها الائتمانية.

بالإضافة إلى ذلك، شهدت الأشهر الأولى من الأزمة موجة سحوبات مصرفية ضخمة، حيث سحب المودعون نحو 680 مليون دولار في مايو 2011. هذا الانفصال عن النظام المالي العالمي أضعف الدور الحيوي للبنوك في دعم النشاط الاقتصادي.

تأثير الأزمة اللبنانية على القطاع المصرفي السوري

أظهرت الأزمة المالية في لبنان مدى الترابط بين النظامين المصرفيين في البلدين. علِقت مليارات الدولارات السورية في المصارف اللبنانية، وهذا زاد من حدة أزمة السيولة في الداخل السوري. تُشير التقديرات إلى أن المصارف السورية تحتفظ بأكثر من 1.6 مليار دولار عالقة في النظام المصرفي اللبناني.

التحديات المستقبلية: استعادة الثقة وتمويل التنمية

يشير الخبراء إلى أن استعادة الثقة في القطاع المصرفي السوري هي التحدي الأكبر. إصلاحات مثل تعزيز رؤوس الأموال وتفعيل “هيئة ضمان الودائع” هي خطوات إيجابية، لكنها غير كافية. يتطلب الأمر إصلاحات شاملة وشفافة، بالإضافة إلى جهود لتعزيز الثقافة المصرفية لدى المواطنين. الإصلاح المصرفي يجب أن يترافق مع التنمية الاقتصادية المستدامة.

في الختام، يواجه القطاع المصرفي السوري تحديات هائلة، ولكن مع وجود إرادة سياسية حقيقية واتخاذ الإجراءات المناسبة، يمكن إعادة بنائه ليصبح محركاً أساسياً للنمو الاقتصادي والتنمية في سوريا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى