Mr. Scorsese.. رحلة ممتعة في عقل مارتن سكورسيزي!

عندما يكون الفيلم الوثائقي دراميا ومشوقا مثل أفلام مارتن سكورسيزي، وعندما يضاهي “بورتيريه” توثيقي عن فنان سينمائي مثل سكورسيزي الإتقان والجمال اللذين يصنع بهما أفلامه، تكون النتيجة المسلسل الفيلمي Mr. Scorsese، الذي بدأ عرضه مؤخراً على منصة Apple TV +. هذا العمل ليس مجرد سيرة ذاتية عادية، بل هو غوص عميق في عالم أحد أعظم مخرجي السينما، يكشف عن جوانب لم تسبق الإفصاح عنها من حياته وفنه.
أكثر من مجرد إخراج
المسلسل يحمل عنواناً فرعياً يقول A Portrait By Rebecca Miller، كما لو أنه لوحة فنية للشخصية موضوع الفيلم، وهو عنوان أدق من تعبير “إخراج” أو “تأليف وإخراج”، لأن ما تفعله صانعة الفيلم ريبيكا ميلر يتجاوز هذين التعبيرين البليدين اللذين يطلقان على معظم الأفلام وصناعها. وكأن ما يفعله سكورسيزي أو فلليني أو هيتشكوك أو غيرهم من فناني السينما الكبار هو مجرد “توجيه” أو “إدارة”. ما تقدمه ميلر هو تفكيك لشخصية فنان، وتحليل لعمله من زوايا متعددة، وربط بين حياته وتأثيرها على رؤيته الفنية.
من هي ريبيكا ميلر؟
ريبيكا ميلر البالغة من العمر 63 عاماً هي مخرجة ومؤلفة لديها رصيد قليل ولكن متميز من الأعمال. وهي ابنة الأديب الراحل آرثر ميللر، صاحب مسرحيات شهيرة مثل “All My Sons” و “Death of a Salesman”. ريبيكا هي أيضاً أديبة لها عدد من الروايات، ولكنها معروفة أكثر كصانعة أفلام مستقلة حصلت على الجائزة الفضية من مهرجان “صاندانس” عن فيلمها “Personal Velocity” عام 2002. لقد أخرجت وكتبت 7 أفلام روائية، بالإضافة إلى عملها كمنتجة وممثلة، وفيلم وثائقي عن والدها بعنوان “Arthur Miller: Writer” الذي رشح لجائزة إيمي.
يُضاف إلى ذلك أنها زوجة الممثل دانيال داي لويس منذ 1995، وأم ابنه المخرج رونان داي لويس، صانع فيلم “Anemone”. دانيال، بدوره، يشارك في المسلسل كضيف عمل مع سكورسيزي في اثنين من أفضل أفلامه، “The Age Of Innocence” و “Gangs Of New York”. هذا الارتباط العائلي والفني القوي يمنح العمل عمقاً إضافياً ومصداقية عالية.
من فيلم إلى خمسة أجزاء
كان من المفترض أن يكون Mr. Scorsese فيلماً، مثل عمل ريبيكا عن أبيها، ولكن أثناء العمل تبين أن قالب الفيلم لا يكفي لاستيعاب منجز وحياة سكورسيزي. لذلك خرج العمل كسلسلة من 5 أجزاء يقترب زمن عرضها من 5 ساعات. هذا التوسع في الشكل يسمح باستكشاف أكثر تفصيلاً وشمولية لشخصية سكورسيزي وتأثيرها على السينما.
القالب في أي عمل فني يحدده المضمون. منجز سكورسيزي الغني والمتنوع كان يستحق هذا المعالجة الخاصة، التي تتيح عرض مختلف جوانبه الإبداعية والشخصية. لقد أتيحت لريبيكا ميلر “كل شيء” تقريبا عن سكورسيزي: هو نفسه كمتحدث، شركاء عمله، كبار الفنانين والنقاد، عائلة سكورسيزي وأصدقاءه، المواد الفيلمية اللازمة وفوق ذلك الأرشيف الفيلمي الشخصي لسكورسيزي كاملاً.
أسلوب سكورسيزي في صميم العمل
من الصعب استيعاب البناء الذي وضعته ريبيكا ميلر لهذه اللوحة الجدارية السينمائية. في الحقيقة يشبه الفيلم تلك الأبنية الفنية السلسة المركبة التي يصوغها سكورسيزي في معظم أفلامه: الاعتماد على المونتاج والتداخل البصري السمعي الموسيقي وتدفق الحكي بطريقة تشبه “تيار الوعي” في الأدب. وهو الأسلوب الذي يرغب في قول كل شيء دفعة واحدة، في نظام يبدو مرتجلاً ولكنه مُنظّم في خط بسيط هو الترتيب الزمني لحياة سكورسيزي، مع ربط التفاصيل بحياته الشخصية وبيئته ودور السينما فيها.
الخط الرئيسي الذي ينظم هذا الكل هو العلاقة بين الواقع والفن في حياة صاحب “Mean Streets” و “Taxi Driver” و “Good Fellas”: كيف أثرت الحياة التي عاشها في طفولته على موضوعات أفلامه وأسلوبه الفني، وكيف أثرت موهبته ووجود السينما في حياته على مسيرته من ظروف اقتصادية صعبة وبيئة يسودها العنف إلى أن أصبح واحداً من أهم فناني السينما في العالم. وهذا ما يجعل Mr. Scorsese تحفة فنية بحد ذاتها، لا تقل روعة عن أعمال سكورسيزي نفسها.
نشيد جماعي لفنان عظيم
المسلسل يشبه نشيداً جماعياً يشارك في صياغته عدد كبير من الضيوف: روبرت دي نيرو، دانيال داي لويس، ستيفن سبيلبرج، برايان دي بالما، بول شريدر، سبايك لي، وغيرهم الكثير. كما يضم أفراداً من عائلة سكورسيزي وأصدقاءه القدامى، وحتى بعض الأشخاص الذين تحولوا إلى شخصيات خيالية في أفلامه الأولى. هذا التنوع في وجهات النظر يضفي على العمل ثراءً إضافياً ويجعله أكثر شمولية.
كل حلقة تحمل عنوانًا منفصلاً غالبًا ما يكون مقتبسًا من أحد الضيوف، مثل “السينما الخالصة” أو “مخرج الطريقة”، وهي تعكس جوانب مختلفة من أسلوب عمل سكورسيزي وشخصيته. Mr. Scorsese لا يتردد في الكشف عن عيوبه، مثل غروره، ولكنه يعترف أيضًا بأهمية الصدق والتواضع في فنه.
في الختام، Mr. Scorsese ليس مجرد فيلم وثائقي عن مخرج سينمائي، بل هو احتفال بالفن والسينما والإبداع. إنه عمل يلهم المشاهدين للتفكير في العلاقة المعقدة بين الواقع والوهم، وبين الحياة والفن، ويقدم لنا صورة حقيقية وقريبة لشخصية فذة تركت بصمة لا تُمحى في تاريخ السينما العالمية.












