مقالات

“يونان”.. تُنسى كأن لم تكن

ينطلق فيلم “يونان” من مشهد مؤثر لرجل يكافح من أجل التنفس، يصارع كل شهيق وزفير كأنه يستجدي الحياة. هذا المشهد، الذي يستهل الفيلم، يغرقنا مباشرة في عالم من القلق والضياع، عالم يعيشه بطل الفيلم منير نور الدين، الذي يبدو مثقلاً بأعباء وجودية لا يستطيع التخلص منها. الفيلم، الذي شهد عرضه الأول في الشرق الأوسط ضمن فعاليات مهرجان البحر الأحمر السينمائي، يمثل الجزء الثاني من ثلاثية المخرج أمير فخر الدين، والتي تستكشف بعمق قضايا الهوية والاغتراب والبحث عن الذات، وهي قضايا تلامس قلوب الكثير من أبناء الجيل الحالي من اللاجئين والمهاجرين.

“يونان” ومحورية الاغتراب في أعمال أمير فخر الدين

يحمل فيلم “يونان” اسماً يربطنا مباشرة بقصة النبي يونس في الديانات السماوية، والتي تتناول موضوع الهرب والتوبة والعودة. ففي كل من الكتاب المقدس وسورتي يونس والأنبياء، نجد يونس يغادر مدينته غاضباً، ثم يواجه عاصفة في البحر، وينتهي به المطاف في بطن حوت. هذه القصة، بكل تفاصيلها، تبدو بمثابة مرآة تعكس رحلة منير نور الدين، الروائي الذي يعيش في ألمانيا ويعاني من حالة من الجمود الإبداعي والروحي. هناك تناغم لغوي ملحوظ بين اسم المخرج أمير فخر الدين واسم البطل منير نور الدين، بالإضافة إلى التباين الصارخ بين اسم “منير” الذي يعني المضيء، وبين حالة الانطفاء التي تعيشها شخصيته.

البحر كرمز للهروب والوجودية

الفيلم يطرح سؤالاً جوهرياً: هل يمكن الهروب من قدر محتوم؟ يبدو أن منير يحاول ذلك من خلال رحلة بحرية إلى شبه جزيرة منعزلة، حيث يواجه نفسه ويقرر مصيره. هذه الرحلة ليست مجرد هروب جغرافي، بل هي أيضاً هروب نفسي ووجودي. منير يعيش في عالم من الذكريات والأحلام، يطارده صوت أمه وحكاياتها القديمة، وعلى رأسها قصة الراعي الغامض الذي لا يعرف اسمه ولا يملك حواسه. هذه القصة تمثل بالنسبة له نواة لرواية يحاول كتابتها، ولكنه يجد صعوبة في إكمالها.

ضيق التنفس كاستعارة للحياة

يعاني منير من ضيق تنفس جسدي، ولكنه في الواقع يعكس ضيقاً نفسياً وروحياً أعمق. هذا الضيق يمنعه من استيعاب الحياة والاستمتاع بها، ويجعله يشعر بالاغتراب والوحدة. حتى في علاقته بحبيبته الألمانية، يجد صعوبة في التعبير عن مشاعره وإشباع رغباته. المدينة التي يعيش فيها تبدو ساكنة وميتة، وكأن الحياة قد توقفت فيها. هذا الجو العام من الركود والجمود يساهم في تفاقم حالة منير النفسية.

جغرافيا “طرح البحر” ودلالاتها الرمزية

يكتشف منير أن المكان الذي وصل إليه ليس جزيرة، بل هو “طرح بحر”، وهو عبارة عن أرض تكونت نتيجة تراكم التربة والرمال في البحر. هذه الجغرافيا الخاصة تحمل دلالات رمزية عميقة. “طرح البحر” هو أرض هشة ومهددة بالفيضان، تماماً مثل حالة منير النفسية. كما أن هذه الأرض هي نتاج البحر، مما يعني أنها مرتبطة بشكل وثيق بالماضي والذكريات. يرى منير في هذه الأرض انعكاساً لقصة يونس والحوت، وكأن الحوت قد ضحى بنفسه لكي لا يبتلع منير.

الزمن الاعتباري والواقعية الشعرية في “يونان”

يعتمد الفيلم على تقنية “الزمن الاعتباري”، حيث يدخل منير إلى عالمه الداخلي ويتخيل نفسه جزءاً من قصة الراعي التي كانت ترويها له أمه. هذا الزمن المجرد من الحساب يسمح للمخرج باستكشاف أعماق نفسية منير وكشف عن صراعاته الداخلية. الفيلم يتميز بلقطات طويلة ذات تكوينات جمالية ممتدة في الزمن، مما يساهم في خلق جو من التأمل والهدوء. هذه التقنيات تجعل من “يونان” فيلماً ليس سهلاً، بل يتطلب من المشاهد تركيزاً وتأملاً عميقين.

بطء الإيقاع والعمق الفكري

قد يجد البعض أن إيقاع الفيلم بطيئاً، ولكنه في الواقع ضروري لخلق الحالة الشعرية والتأملية التي يطمح إليها المخرج. هذا البطء يسمح للمشاهد بالتفاعل مع الصور والأصوات والمشاعر التي يعرضها الفيلم. ولكن، يجب التمييز بين البطء والطول. الفيلم قد يطيل في بعض المشاهد دون داع، مما يضعف من تأثيره. على سبيل المثال، الحوار المسرحي في نهاية الفيلم بين منير وأمه يبدو غير ضروري، ويكشف عن أفكار ومشاعر كانت قد تم التعبير عنها بشكل أكثر دقة وجمالاً من خلال الصور والموسيقى.

أداء جورج خباز المذهل

لا يمكن الحديث عن فيلم “يونان” دون الإشارة إلى الأداء المذهل للممثل جورج خباز. يتمكن خباز من تجسيد شخصية منير بكل تعقيداتها وتناقضاتها. عيناه تعبران عن الكثير من المشاعر والأحاسيس، وجسده ينطق بالوجع والضياع. هذا الأداء القوي يجعل من شخصية منير شخصية لا تُنسى، ويؤكد على موهبة جورج خباز الكبيرة. “يونان” هو فيلم يستحق المشاهدة والتأمل، وهو إضافة مهمة إلى السينما العربية المعاصرة. الفيلم يطرح أسئلة عميقة حول الهوية والاغتراب والبحث عن المعنى، ويقدم إجابات معقدة وغير حاسمة. هذا التعقيد هو ما يجعل من الفيلم عملاً فنياً حقيقياً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى