مقالات

مهرجان الجزائر الدولي في دورته الـ12: إعادة اكتشاف التاريخ عبر السينما

بعد توقف لسنوات، عاد مهرجان الجزائر الدولي في طبعته الـ12، حاملاً معه وعوداً بتجديد ورفع مستوى الطموحات. الدورة التي اختتمت فعالياتها مؤخراً، من 4 إلى 10 ديسمبر، لم تكن مجرد عودة لمهرجان سينمائي، بل كانت بمثابة إعلان عن ميلاد جديد للسينما الجزائرية، مع مشاركة غير مسبوقة تجاوزت الـ100 فيلم، مما يعكس حيوية متزايدة في هذا المجال. هذا التنوع في الأفلام، مع التركيز على الجودة والمضمون، يضع مهرجان الجزائر الدولي في مكانة متميزة بين المهرجانات الأخرى.

عودة قوية بمجموعة أفلام متنوعة

تميزت هذه الدورة بتشكيلة أفلام غنية ومتنوعة، حيث ضمت المسابقات الرئيسية – الروائي والوثائقي والقصير – نصف الأفلام المشاركة تقريباً. هذا التوزيع الكلاسيكي يعكس اهتماماً بتصنيف الأفلام حسب نوعها الفني، وهو ما يسهل مهمة لجان التحكيم ويضمن تقييماً عادلاً للأعمال. في الوقت الذي تتجه فيه بعض المهرجانات إلى تقسيم الأفلام بناءً على مدة العرض، يظل مهرجان الجزائر وفياً للمعايير التقليدية التي تركز على القيمة الفنية والرسالة التي يحملها الفيلم.

“غطاسو الصحراء”.. تحفة سينمائية منسية تعيد كتابة التاريخ

لم يقتصر المهرجان على الأفلام الحديثة، بل ضم أيضاً برنامجاً خاصاً لإعادة اكتشاف روائع السينما الجزائرية القديمة. وكان فيلم الافتتاح “غطاسو الصحراء” (1952) بمثابة المفاجأة الكبرى، حيث عُثر عليه مؤخراً في بيت العائلة، ليُكشف النقاب عن أول فيلم جزائري كامل، من تأليف وإخراج وتمثيل وإنتاج طاهر بلحناش، رائد السينما الجزائرية. على الرغم من أن بلحناش عمل في حوالي 80 فيلماً، معظمها إنتاج فرنسي وأوروبي، إلا أن “غطاسو الصحراء” يمثل علامة فارقة في تاريخ السينما الجزائرية، نظراً لكونه عملاً جزائرياً خالصاً، مما أدى إلى منعه من العرض من قبل السلطات الفرنسية في ذلك الوقت.

السينما الفلسطينية والكوبية.. تكريم للسينما المقاومة

استضاف مهرجان الجزائر السينما الكوبية كضيف شرف، بالإضافة إلى برنامج خاص للسينما الفلسطينية، وبرامج أخرى مثل “سينما الجنوب” و”بانوراما السينما الجزائرية”. هذا الاختيار يعكس التزام المهرجان بدعم السينما التي تتناول قضايا إنسانية وسياسية مهمة، وتدعم حركات المقاومة وتحرر الشعوب. ومن اللافت للنظر غياب أي فيلم أمريكي في المهرجان، وهو ما يعزز هذا التوجه “السياسي” الذي يذكرنا بعصر المهرجانات التي كانت تتبنى مواقف واضحة تجاه القضايا العالمية.

“مع حسن في غزة”.. وثيقة سينمائية مؤثرة

من بين الأفلام المتميزة التي عرضت في المهرجان، فيلم “مع حسن في غزة” للمخرج الفلسطيني كمال الجعفري، والذي حاز على إعجاب النقاد والجمهور. الفيلم الوثائقي، الذي يصور الحياة في غزة خلال الانتفاضة الثانية، يقدم صورة واقعية ومؤثرة عن معاناة الفلسطينيين، ويستعرض تفاصيل الحياة اليومية تحت الحصار. وقد اختارته مجلة Sight & Sound ضمن أفضل 50 فيلماً في عام 2025، مما يؤكد على قيمته الفنية والإنسانية. الفيلم يمثل سينما وثائقية قوية، تعتمد على المشاهد الحقيقية واللقطات العفوية، لتقدم شهادة حية على الأحداث.

الفيلم كذاكرة وتجسيد للزمن

يكمن جمال “مع حسن في غزة” في بساطته وعفويته، حيث يصور الفيلم الحياة في غزة كما هي، دون أي تدخل أو تزييف. الفيلم هو بمثابة أرشيف منسي، يعيد إلى الأذهان صوراً وأحداثاً قد طواها النسيان، ويذكرنا بأن الحرب على غزة ليست وليدة اللحظة، بل هي مستمرة منذ عقود. كما يجسد الفيلم فكرة السينما كذاكرة، وكوسيلة لاستحضار الماضي، وإحياء ذكرى من فقدوا أرواحهم.

مهرجان الجزائر: تركيز على الجوهر والسينما المستقلة

على عكس العديد من المهرجانات التي تركز على استقطاب النجوم والمشاهير، اختار مهرجان الجزائر الدولي في دورته الـ12 التركيز على السينما المستقلة والجادة، وعلى الأفلام التي تحمل مضامين إنسانية وسياسية عميقة. هذا التوجه يعكس رؤية واضحة لصناع المهرجان، الذين يسعون إلى تقديم أعمال سينمائية ذات قيمة فنية وثقافية حقيقية. كما استضاف المهرجان سوقاً للفيلم، بهدف تعزيز التواصل بين صناع السينما ودعم المشاريع السينمائية الجديدة.

باختصار، يمثل مهرجان الجزائر في دورته الـ12 نقطة تحول مهمة في تاريخ السينما الجزائرية، ويعكس التزاماً قوياً بدعم السينما المستقلة والجادة، وتقديم أعمال سينمائية ذات قيمة فنية وإنسانية حقيقية. إنه مهرجان يعيد اكتشاف التاريخ من خلال السينما، ويقدم منصة للسينما التي تتناول قضايا مهمة وتدعم حركات المقاومة وتحرر الشعوب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى