“صوت هند رجب”.. لحظة من الأمل في زمن اليأس

الحرب على غزة ليست مجرد صراع جيوسياسي، بل هي نقطة تحول في تاريخ الإنسانية. فما نشهده اليوم ليس مجرد تكرار لمآسٍ سابقة، بل هو بث مباشر للمعاناة، حيث تصل صور وأصوات المذابح إلى شاشاتنا وهواتفنا في كل لحظة. هذا التدفق المستمر للمعلومات الصادمة غيّر طريقة تفاعلنا مع الأحداث، وأثر بشكل عميق على وسائل الإعلام والسينما، اللتين وجدتا نفسيهما أمام تحدٍ غير مسبوق في التعامل مع هذه الواقعة المروعة.
“صوت هند رجب”.. فيلم يجسد صدمة غزة
في خضم هذه الأحداث، يبرز فيلم “صوت هند رجب” للمخرجة التونسية كوثر بن هنية كعمل سينمائي استثنائي. الفيلم ليس مجرد قصة مأساوية، بل هو تجربة مشاهدة فريدة من نوعها، تتجاوز حدود السينما التقليدية. قد لا يكون الفيلم الأفضل من الناحية الفنية، ولكنه بالتأكيد يترك أثراً عميقاً في النفس، يختلف تماماً عما اعتدنا عليه في الأفلام الأخرى. إنه فيلم يلامس الوجدان بشكل مباشر، ويجعل المشاهد يعيش لحظات من الألم والتعاطف لا يمكن نسيانها.
تجربة تتجاوز التقييم
خلال 90 دقيقة، تأخذنا كوثر بن هنية في رحلة مؤلمة إلى قلب غرفة عمليات الهلال الأحمر الفلسطيني في رام الله. الفيلم يركز على التفاصيل الدقيقة لمصرع الطفلة الفلسطينية هند رجب، البالغة من العمر 5 سنوات، وستة من أفراد عائلتها في 29 يناير 2024. نعيش مع فريق الهلال الأحمر لحظات استغاثة هند من داخل السيارة التي تحولت إلى مقبرة، ونشهد محاولاتهم اليائسة لإنقاذها، قبل أن يستهدفهم قناص الاحتلال الإسرائيلي.
الفيلم يعتمد على ثلاثة عناصر رئيسية: التوثيق الدقيق للحدث، الجانب “المؤلف” الذي يضفي عليه طابعاً سينمائياً، والأسلوب الفريد الذي يميز كوثر بن هنية في المزج بين الوثائقي والروائي. الفيلم لا يكتفي بسرد الأحداث، بل يغوص في أعماق مشاعر الشخصيات، ويقدم لنا صورة واقعية لما يحدث في غزة.
السينما بعد الصدمة: تحول في الرؤية
“صوت هند رجب” ليس مجرد فيلم، بل هو نموذج لـسينما ما بعد الصدمة، التي تسعى إلى التعبير عن المعاناة الإنسانية في ظل الحروب والكوارث. الفيلم يمثل تجربة سينمائية عربية جريئة، تتحدى التقاليد وتستكشف آفاقاً جديدة في عالم السينما. إنه عمل فني يثير التساؤلات ويحفز على التفكير، ويجعلنا نتساءل عن دور السينما في مواجهة الظلم والمعاناة.
الفيلم يلقي الضوء على عمل المسعفين والأطباء في الهلال الأحمر الفلسطيني، الذين يخاطرون بحياتهم لإنقاذ الآخرين. كما يسلط الضوء على الضغوط النفسية التي يتعرضون لها، والصعوبات التي يواجهونها في أداء عملهم. الشخصيات الرئيسية في الفيلم، عمر القم ورنا حسن ومدير المكتب مهدي ومسؤولة الصحة النفسية نسرين، يمثلون نماذج حقيقية من الأبطال الذين يعملون في صمت لخدمة الإنسانية.
واقعية الأداء وتأثيره
أحد أبرز جوانب الفيلم هو واقعية الأداء التمثيلي. الممثلون لم يستخدموا مهاراتهم في التمثيل لإقناع المشاهدين، بل حاولوا أن يعيشوا الشخصيات التي يجسدونها، وأن ينقلوا مشاعرهم الحقيقية. هذا الأداء الطبيعي يزيد من تأثير الفيلم، ويجعله أكثر صدقاً وإقناعاً.
كوثر بن هنية حرصت على وضع الممثلين في الموقف المطلوب، وإتاحة الفرصة لهم للتعبير عن مشاعرهم الحقيقية. لقد استخدمت أسلوب الارتجال والارتباك لإضفاء المصداقية والطبيعية على الأداء. كما استخدمت الصوت الحقيقي لهند رجب طوال الفيلم، مما زاد من تأثيره العاطفي.
الأسلوب السينمائي: مزيج بين الوثائقي والروائي
“صوت هند رجب” يتميز بأسلوبه السينمائي الفريد، الذي يجمع بين الوثائقي والروائي. الفيلم يعتمد على صوت هند رجب الحقيقي، الذي يشارك كشخصية رئيسية في الفيلم. في كل مرة يتم استخدام الصوت، يتم التنويه على الشاشة بأنه الصوت الفعلي الذي سجلته أجهزة مكتب الهلال الأحمر. هذا المزيج يعطي الفيلم تأثيره الفريد، ويجعله أكثر قوة وإقناعاً.
بالإضافة إلى ذلك، تستخدم بن هنية أدوات من السينما الروائية، مثل بناء القنبلة الموقوتة، والتصوير بالكاميرا المحمولة، لإضفاء المزيد من التشويق والتوتر على الفيلم. هذه الأدوات تجعل المشاهد يعيش لحظات من الترقب والقلق، ويشعر بالعجز الذي ينتاب الشخصيات.
الفيلم هو صرخة من أعماق القلب، تعبر عن الحزن والغضب واليأس. إنه دعوة إلى الإنسانية، وإلى وقف العنف والظلم في غزة. الفيلم يذكرنا بأن وراء كل ضحية قصة إنسانية، وأن كل حياة لها قيمة. “صوت هند رجب” هو فيلم يجب أن يشاهده الجميع، لكي نفهم ما يحدث في غزة، ولكي نتذكر أن هناك أطفالاً مثل هند يدفعون ثمن هذه الحرب الباهظ.
اقرأ أيضاً: أوسكار 2025: No Other Land حين يحلّق الفيلم فوق يأس صنّاعه
اقرأ أيضاً: Superman.. بطل خارق أكثر إنسانية لعصر ما بعد غزة












