مقالات

“صوت هند رجب”.. سينما ما بعد الصدمة

شهد برنامج العروض الخاصة في الدورة الخامسة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي (4-13 ديسمبر) مجموعة متميزة من الأفلام، من بينها ثلاثة أفلام لفتت الأنظار بشكل خاص: الفيلم الفرنسي الإسباني “صراط” للمخرج أوليفر لاكس، وإعادة تقديم فيلم “كيل بيل” بعد 20 عاماً من صدوره، والأهم من ذلك، الفيلم التونسي “صوت هند رجب” للمخرجة كوثر بن هنية. هذا الفيلم تحديداً، الحائز على جائزة الأسد الفضي من مهرجان فينيسيا الأخير، والمرشح الرسمي لتونس لجائزة الأوسكار، يمثل تجربة سينمائية فريدة تستحق التحليل والتقدير.

“صوت هند رجب”: فيلم هجين بين الواقع والدراما

يمكن تصنيف فيلم “صوت هند رجب” على أنه عمل سينمائي “هجين” يمزج بين الشكل الروائي والعناصر الوثائقية. الفيلم يعتمد بشكل أساسي على التسجيل الصوتي للطفلة الفلسطينية هند رجب، ذات الست سنوات، والتي قضت ساعات طويلة محتجزة مع جثث أفراد عائلتها خلال ذروة الحرب على غزة في 24 يناير 2024. بينما كانت تنسيقية الهلال والصليب الأحمر في رام الله تحاول تأمين ممر آمن لسيارة إسعاف لإنقاذها من القصف الإسرائيلي.

الفيلم ليس مجرد إعادة تمثيل للأحداث، بل هو وثائقي درامي يعتمد على الأثر الصوتي للتسجيل الأصلي. التمثيل هنا ليس هدفاً في حد ذاته، بل هو أداة لاستحضار اللحظة، لأن أي محاكاة مهما بلغت دقتها لن تصل أبداً إلى مستوى الصدق والمأساوية اللذين يفوحان من صوت الطفلة في ساعات الرعب تلك، قبل أن يصمت هاتفها إلى الأبد.

كوثر بن هنية: استعادة الواقع وتحويله إلى دراما مؤثرة

هذا العام، تعود كوثر بن هنية إلى مهرجان البحر الأحمر بفيلم “صوت هند رجب” بعد أن حازت على جائزة الشرق العام الماضي عن فيلمها “بنات ألفة”. الفيلم يمثل تتويجاً لأسلوبها الفريد في تحويل الواقع إلى دراما، مع الحفاظ على أكبر قدر ممكن من الحقيقة. بن هنية تكسر الإيهام المستمر، وتخلق حالة مؤثرة وصادمة للمشاهد.

الخبرة التي اكتسبتها كوثر من فيلم “ألفة” تظهر بوضوح في تجربتها الجديدة. هذه الخبرة بدأت في التراكم منذ أن قدمت فيلمها العابر للأنواع “شلاط تونس” قبل أكثر من عقد. فيلم “ألفة” اعتمد على الحكايات المعاد تمثيلها، بينما يعتمد “صوت هند رجب” على عناصر صوتية وبصرية أكثر زخماً، وعلى رأسها التسجيل الصوتي الأصلي ومقاطع مصورة لفريق الهلال الأحمر الفلسطيني.

الشبه والواقعية في اختيار الممثلين

اختارت كوثر مجموعة ممثلين يشبهون الشخصيات الحقيقية لرباعي الهلال الأحمر، لخلق أكبر قدر من الإيهام لدى الجمهور الذي يعرف الشخصيات الحقيقية. هذا الشبه ظهر جلياً ليس فقط في نهاية الفيلم عندما عرضت صورة المجموعة الأصلية، ولكن أيضاً عندما كسرت هذا الإيهام وعرضت المقاطع الحقيقية التي استند إليها الفيلم أثناء أدائها من قبل الممثلين. هذه المغامرة التجريبية والسردية تعكس إحساساً بالسيطرة على المادة وتوجيهها لخلق أكبر قدر من التأثير لدى الجمهور.

اللعبة الدرامية الصوتية وبناء دائري للمشاعر

قبل بداية الفيلم، لعبت كوثر على شريط الصوت بدقة، ودمجت صمت الشاشة مع صوت البحر الذي يبدو بعيداً. هذه اللعبة الدرامية الصوتية تتضح مغزاها عندما نسمع صوت أم هند وهي تحكي عن حب ابنتها للبحر ورغبتها في اللعب عنده إلى الأبد. لينتهي الفيلم بمقطع لهند وهي تلعب على الشاطئ، بينما صوت الموج يغمر الشاشة، معلناً عن نفسه بعدما كان مجرد تنهيدة خافتة. بهذا تحقق كوثر بناءً صوتياً دائرياً، كأنها تمنح هند الخلود الذي تستحقه.

الخصم في الداخل: ذكاء في الصياغة الدرامية

أحد الجوانب الذكية في أسلوب كوثر بن هنية هو استخدامها لتقنية “الخصم في الداخل”. فالجميع يعرف من هو الخصم الرئيسي (الجيش الإسرائيلي)، ولكننا لا نراه. بدلاً من ذلك، تركز المخرجة على مسؤول تنسيق حركة سيارات الإسعاف الذي يرفض منح الإذن بالحركة إلا بعد الحصول على الضوء الأخضر من جيش الاحتلال. هذا الموظف يصبح الخصم الذي تصب عليه الشخصيات غضبها، وهو يمثل بيروقراطية دموية يستخدمها العدو. هذا التجسيد للخصم يمنح الصراع ملموسية ويجعله أكثر إثارة.

في النهاية، “صوت هند رجب” ليس مجرد فيلم، بل هو شهادة سينمائية مؤثرة ومأساوية، تجسد قسوة الحرب وألم الفقدان. إنه عمل سينمائي مغامر يتجاوز حدود الصنعة إلى الحميمية الإنسانية، ويستحق أن يُدرس كنموذج في سينما ما بعد الصدمة.

اقرأ أيضاً:
“صوت هند رجب”.. مأساة تتحول إلى شهادة سينمائية في فينيسيا
كوثر بن هنية: “صوت هند رجب” أعاد إيماني بأهمية دور السينما
“صوت هند رجب” عن حرب غزة يفوز بالأسد الفضي في مهرجان فينيسيا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى