جعفر بناهي: السينما آخر مساحات التنفس تحت الأنظمة القمعية

شارك المخرج الإيراني جعفر بناهي مؤخرًا في مؤتمر صحفي افتراضي مخصص لناخبي جوائز “جولدن جلوب”، حضره فريق “الشرق”، وذلك لمناقشة فيلمه الجديد “It Was Just an Accident” (كان مجرد حادث)، الذي أثار ضجة كبيرة في الأوساط الفنية والسياسية منذ عرضه الأول في مهرجان كان السينمائي، حيث حصد السعفة الذهبية المرموقة. هذا الفيلم، الذي يمثل تحديًا فنيًا وسياسيًا، يضع بناهي مرة أخرى في دائرة الضوء، ويفتح نقاشات حول حرية الإبداع في ظل القيود السياسية.
فيلم “It Was Just an Accident” وجدل الإبداع في ظل القمع
بدأ المؤتمر بإدارة الإعلامي الأميركي جوش هاروتونيان، وتلقى بناهي سؤالاً مباشرًا حول معنى الاستمرار في الإبداع الفني في ظل الأنظمة القمعية. وأشار بناهي إلى أن لكل دولة “جغرافيتها الخاصة” التي تحدد طبيعة الصراع، لكنه أكد أن الأنظمة المستبدة حول العالم تتشابه في أساليبها. وأضاف أن الفنان، عندما يجد نفسه مقيدًا، يبحث دائمًا عن طرق “للتنفس والعمل والهروب من الضغط”، مؤكدًا أن الإبداع يصبح في هذه الحالة مساحة للمقاومة الشخصية، وليست مجرد وصفة عامة يمكن للجميع اتباعها.
أزمة التمثيل في الأوسكار: قواعد “معطوبة”
تطرق الحديث إلى قضية اختيار فيلم “It Was Just an Accident” لتمثيل فرنسا في سباق جوائز الأوسكار بدلاً من إيران، وما إذا كان بناهي يشعر بالأسف لعدم قدرة أعماله على تمثيل بلاده رسميًا. أجاب بناهي بوضوح أنه لطالما تمنى أن يُعرض فيلمه في إيران قبل التفكير في الأوسكار، لكنه اصطدم بقواعد الأكاديمية التي تشترط عرض الفيلم لمدة أسبوع في بلده الأصلي، وهو شرط لم تتمكن إيران من تحقيقه لفيلمه.
وأوضح أن فيلميه السابقين، “The Circle” (الدائرة) و “Offside” (خارج اللعبة)، كانا جاهزين لتمثيل إيران في الأوسكار، بل إن شركة Sony Pictures ناشدت الحكومة الإيرانية رسميًا السماح بعرض “Offside” لمدة أسبوع واحد فقط للتأهل، لكن السلطات رفضت. ووصف بناهي قواعد الأكاديمية بأنها “معطوبة” لأنها تمنح الحكومات سلطة تحديد الأفلام المرشحة، مما يحرم المخرجين في الأنظمة القمعية من فرصة المنافسة العادلة. واقترح حلًا جذريًا، وهو “إلغاء فئة الفيلم الدولي بالكامل” ودمج الأفلام غير الأمريكية في جميع الفئات الأخرى، معتبرًا ذلك الحل الوحيد لضمان استقلالية الفنان عن حكومته.
المزج بين الكوميديا والنقد الاجتماعي في فيلم جعفر بناهي
ناقش بناهي أيضًا أسلوبه المميز في المزج بين الكوميديا والنقد السياسي في فيلمه. وأشار إلى أن الواقعية الاجتماعية تتطلب إدخال لحظات من الضحك، حتى “في قلب الحزن”، لأن البشر يبتسمون أحيانًا حتى في أسوأ الظروف. ولهذا السبب، حافظ الفيلم على نبرة ساخرة حتى الدقائق العشرين الأخيرة، حيث يتحول المشهد فجأة إلى الصمت والصدمة. وأضاف أن استقبال الكوميديا يختلف باختلاف الثقافات، حيث يضحك الجمهور الأمريكي والكندي أكثر مقارنةً بالجمهور في شرق آسيا.
“لقطة واحدة طويلة”: تفاصيل تقنية ومعاناة إنسانية
كشف بناهي عن تفاصيل تقنية دقيقة تتعلق بمشهد التحقيق الشهير الذي يظهر فيه وجه شخصية واحدة فقط لمدة 13 دقيقة متواصلة. وأوضح أنه استوحى فكرة “العدالة البصرية”، حيث أراد أن يمنح الشخصية الغائبة طوال الفيلم لحظة مركزية. كما أن المشهد تم تصويره كـ “لقطة واحدة طويلة” دون أي قطع، وهو ما وصفه بأنه أصعب لقطة نفذها في حياته. ولتحقيق ذلك، استعان بصديقه مهدي محموديان، الذي قضى سنوات طويلة في السجن، لمساعدته في ضبط مشاعر وتصرفات الشخصية. وأكد بناهي أنه رفض اقتراحات فريق العمل بإضافة لقطات إضافية “حتى لا يقوم بتقطيع اللقطة في غرفة المونتاج”، معتبرًا أن قوة المشهد تكمن في كونه لقطة طويلة واحدة.
السيارات في أفلام بناهي: ليست رمزًا!
وعن استخدامه المتكرر للمركبات في أفلامه، أعرب بناهي عن استيائه من التفسيرات المبالغ فيها لوجود السيارات، مؤكدًا أنها “ليست رمزًا”. وأوضح أن الحاجة السردية هي التي فرضت وجود السيارة في فيلم “It Was Just an Accident”، لأن “الصندوق الذي يحتوي على الجثة لم يكن ليستوعبه شيء آخر”.
من ذاكرة السجن: قصص حقيقية في فيلم “It Was Just an Accident”
عندما سُئل بناهي عما إذا كانت شهادات ضحايا التعذيب في الفيلم مبنية على أحداث حقيقية، أجاب بأن معظم هذه القصص سمعها من سجناء داخل المعتقل، أو عاشها بصورة غير مباشرة. وأشار إلى أن التعذيب بعد الثورة “ازداد بشكل كبير”، وأن ما يظهر في الفيلم هو مجرد جزء صغير مما تم توثيقه. وتساءل عما إذا كان يستطيع العمل خارج بلده، فأجاب: “لا شيء مستحيل.. لكن الإبداع خارج الوطن يحتاج فهمًا عميقًا للمكان، سفرياتي لم تمنحني هذه المعرفة، فأنا دائمًا في الفنادق أو غرف المؤتمرات.”
وروى بناهي حادثة من بداياته المهنية، عندما كلفته جهات رسمية بصناعة فيلم قصير بأسلوب ألفريد هتشكوك، لكنه شعر بأن العمل كان يفتقر إلى الروح. فذهب سرًا إلى المعمل، وسرق النيجاتيف وأتلفه بالكامل، لأنه “لم يرغب أن يُنسب إليه فيلم لا يؤمن به”.
مشروع فيلم عن الحرب: إلحاح متزايد
وفيما يتعلق بآفاقه المستقبلية، كشف بناهي أنه يعمل على مشروع فيلم عن الحرب بدأ كتابته عام 2006، وكان يحتاج ميزانية كبيرة. وأضاف أن “رائحة الحرب التي تملأ العالم اليوم” تجعل الفيلم أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. وأكد أن فرص إنتاج الفيلم قد تكون أسهل خارج إيران، لكنه ما زال يبحث عن إمكانات الإنتاج، ويستكمل كتابة السيناريو “كلما وجد وقتًا… حتى في الطائرة”.
فيلم It Was Just an Accident ليس مجرد عمل سينمائي، بل هو شهادة على قوة الإبداع في مواجهة القمع، ودعوة للتفكير في معنى العدالة والحرية. يمثل هذا الفيلم إضافة مهمة إلى مسيرة جعفر بناهي، ويؤكد مكانته كأحد أهم المخرجين المعاصرين.












