مقالات

“ثريا حبي”.. عن الحب والذاكرة والغياب

بعد أربع سنوات من فوزه بجائزتين مرموقتين في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عن فيلمه “فياسكو”، يعود المخرج اللبناني الشاب نيقولا خوري إلى نفس المهرجان في دورته السادسة والأربعين بفيلمه الوثائقي الثاني “ثريا حبي”. الفيلم حصد جائزة أفضل فيلم وثائقي، مؤكداً موهبة خوري وقدرته على تقديم أعمال سينمائية عميقة تتناول قضايا شخصية ووجودية معاً. هذا النجاح المتواصل يضع نيقولا خوري في مصاف المخرجين الواعدين في السينما العربية، ويؤكد على أهمية مهرجان القاهرة كمنصة لإطلاق المواهب الجديدة.

“ثريا حبي”.. فيلم عن الغياب والحضور

يتميز فيلم “ثريا حبي” بخيط رفيع يربطه بفيلم خوري الأول، وهو الاهتمام العميق بالقصص الشخصية والصلة الذاتية التي تربط المخرج بأبطال أفلامه. ففي “فياسكو”، استكشف المخرج أسئلة الهوية الجندرية الخاصة به، بينما يتناول في “ثريا حبي” قصة حب مؤثرة وغياب مفجع، هي قصة الفنانة ثريا بغداد وزوجها المخرج اللبناني مارون بغدادي. الفيلم لا يقتصر على سرد أحداث حياة هذين الفنانين، بل يتجاوز ذلك إلى استكشاف أزمة وجودية تتعلق بالذاكرة، والغياب، والبحث عن الذات.

الهم الشخصي واللمسة الشعرية في سينما نيقولا خوري

يعكس الفيلم جوانب مهمة من حياة ثريا، ليس فقط كأرملة للمخرج مارون بغدادي، بل أيضاً كإنسانة تحاول التحرر من ظل الماضي واستعادة هويتها. تتأرجح ثريا بين الحنين إلى حبيبها الراحل والرغبة في المضي قدماً في حياتها، وهو صراع داخلي يجسده الفيلم بصدق وعمق. يغلف نيقولا هذا الصراع بلمسة شعرية واضحة، مستخدماً تقنيات سينمائية مبتكرة، مثل التسجيلية الشعرية، لالتقاط التفاصيل الدقيقة التي يصعب التعبير عنها بالكلمات. هذا الأسلوب يمنح الفيلم طابعاً حميمياً وشخصياً، ويجعله تجربة سينمائية فريدة من نوعها.

بداية الفيلم.. اعتراف بالغموض

يبدأ الفيلم بمشهد مؤثر، شاشة سوداء وصوت مكالمة بين نيقولا وثريا، تكشف عن انزعاج الأخيرة من المخلص الأولي للفيلم. هذا المشهد يضعنا مباشرة في قلب الصراع الذي يواجهه المخرج، وهو محاولة فهم ثريا وقصتها دون المساس بحريتها الشخصية. تعبر ثريا عن رفضها لفكرة اختزال حياتها في كونها أرملة مارون بغدادي، وتطالب بأن يُنظر إليها كإنسانة مستقلة بذاتها. هذا الاعتراف الصريح بالغموض والتعقيد هو ما يميز الفيلم ويجعله أكثر مصداقية.

الفيلم يتجاوز السياسة إلى العمق الإنساني

على الرغم من أن مارون بغدادي كان مخرجاً معروفاً بأعماله السياسية، إلا أن نيقولا خوري يختار في فيلمه التركيز على الجانب الإنساني والشخصي في حياته وحياة ثريا. لم يسع الفيلم إلى كشف كواليس الأحداث السياسية التي عاشها مارون، أو إلى التحقيق في ملابسات وفاته المثيرة للجدل. بدلاً من ذلك، يركز الفيلم على العلاقة العميقة التي جمعت بين ثريا ومارون، وعلى الأثر الذي تركه غياب مارون في حياة ثريا. هذا التحول في التركيز هو ما يجعل الفيلم أكثر تميزاً وأكثر جاذبية للجمهور.

لقطات شعرية تعبر عن الغياب

تتضمن الفيلم لقطات شعرية مؤثرة، مثل مشهد ثريا وهي تجلس في سيارة مارون القديمة، بينما السيارة محمولة على سطح ونش. هذا المشهد يرمز إلى الغياب الجسدي لمارون، ولكنه في الوقت نفسه يعبر عن حضوره الروحي في حياة ثريا. من خلال صوتها وهي تقرأ سطوراً شعرية من خطابات مارون لها، يبدو مارون نفسه جالساً بجانبها، يقودها في رحلة عبر الذاكرة. هذه اللقطات الشعرية تمنح الفيلم عمقاً إضافياً وتجعله تجربة سينمائية لا تُنسى.

“ثريا حبي”.. فيلم عن البحث عن الذات

في النهاية، يمكن القول إن فيلم “ثريا حبي” هو فيلم عن البحث عن الذات وعن معنى الحياة. من خلال قصة ثريا ومارون، يطرح نيقولا خوري أسئلة عميقة حول الذاكرة، والغياب، والحب، والهوية. الفيلم لا يقدم إجابات جاهزة، بل يدعو المشاهد إلى التفكير والتأمل في هذه القضايا. “ثريا حبي” هو عمل سينمائي جريء ومبتكر، يثبت أن نيقولا خوري هو أحد أبرز المخرجين الشباب في السينما العربية. هذا الفيلم الوثائقي يمثل إضافة قيمة إلى السينما العربية، ويستحق المشاهدة والتقدير.

الكلمات المفتاحية: نيقولا خوري، ثريا حبي، فيلم وثائقي، مهرجان القاهرة السينمائي، مارون بغدادي، سينما عربية، فيلم قصير، تسجيلية شعرية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى