مقالات

“الست”.. بين حدود الإبداع وسقف الشجاعة

منذ سنوات طويلة لم يثر فيلم مصري قدر الجدل الذي أثاره فيلم “الست”، حتى قبل أن يبدأ عرضه بأيام وأسابيع. الجدل لم يتوقف عند هذا الحد، بل تصاعد مع طرح الملصق الدعائي للفيلم، ثم الإعلان التشويقي، حيث مال في البداية نحو الانتقاد والسخرية، قبل أن يتحول إلى موجة من الإعجاب والتقدير عقب سلسلة العروض الخاصة التي بدأت في مهرجان مراكش، ثم في مصر. هذا الجدل، الذي شابته الكثير من الانفعالات والمبالغات وحتى الاتهامات المتبادلة، يدور حول فيلم، في نهاية المطاف، يحمل خيال ووجهة نظر صانعيه، حتى لو كان “مستوحى من حياة أم كلثوم”، كما تقول العناوين.

فيلم “الست” وأم كلثوم: جدل متوقع

الجدل الذي أثاره فيلم أم كلثوم كان متوقعاً، نظراً لشهرة وثقل اسم كوكب الشرق في الذاكرة الجماعية. موضوع الفيلم، وإنتاجه الضخم، وأسماء نجومه، كلها عوامل أثارت شهية الجمهور للإقبال على مشاهدته، رغبة في الاستمتاع به أو من باب الفضول والمشاركة في الجدل الدائر. الفيلم أثار تساؤلات حول كيفية تناول سيرة ذاتية لشخصية بهذا الحجم، وكيف يمكن للمخرج والمؤلف تقديم رؤية جديدة ومختلفة.

من الصعب على المرء أن يتجرد من تصوراته وأفكاره وانحيازاته العاطفية تجاه اسم أم كلثوم، ليكتب تحليلاً أو تقييماً محايداً للفيلم. يجب النظر إليه كعمل فني مستقل، لا يزيد أو يقل عن غيره من الأفلام التي تنتج وتعرض يومياً، من بينها الصالح والطالح، الجيد والرديء، العابر مثل نفخة هواء لا وزن لها، والباقي لا يمحى بمرور الزمن. الهدف هو تقييم الفيلم كقصة سينمائية، وليس كمحاولة لإعادة إنتاج حياة أم كلثوم بكل تفاصيلها.

بداية مشوقة وبناء درامي واعد

مع توالي اللقطات الأولى من الفيلم، يضعنا المؤلف أحمد مراد والمخرج مروان حامد أمام لحظة درامية مشوقة. عقب حرب 1967، تقرر أشهر المغنيات العربيات إحياء حفل ضخم في باريس، تخصيص دخله للمجهود الحربي وإعادة التسليح. هذه البداية القوية تجذب المشاهد وتجعله متشوقاً لمعرفة المزيد عن القصة.

يحتشد الآلاف من العرب والفرنسيين، بينهم زعماء وسياسيون وشخصيات عامة، وبينما يموج المسرح بمشاعر الحماس والترقب، يهجم شاب غامض على المسرح، ويتسبب في سقوط المغنية. مع صدمة الارتطام، يبدأ “فلاش باك” بطول الفيلم، حيث تدور معظم الأحداث في ذهن البطلة خلال الثواني الفاصلة بين سقوطها ونهوضها لاستكمال الحفل. هذا البناء الدرامي المبتكر يمهد لدراما صعود تتخللها الصعاب، وصولاً إلى اكتمال رحلة البطلة المتوجة بالخلود.

أداء منى زكي وقوة النصف الأول من فيلم “الست”

يأخذنا الفيلم عبر مشاهده التالية إلى فصول مختارة بعناية من مسيرة “الست”، من طفولتها المحكومة بالشقاء والاستغلال، إلى الفتاة التي تدرك موهبتها وتسعى للاستقلال. منى زكي تقدم أداءً قوياً ومقنعاً، وتنجح في تجسيد شخصية الفتاة الموهوبة التي تكتشف قوتها وتتمرد على وضعها لتصبح رمزاً ومثالاً. مروان حامد يقود فريق الممثلين والعناصر الفنية بمهارة، خاصة التصوير والمونتاج، على الرغم من كثرة استخدام الموسيقى.

تتمحور الدراما في النصف الأول من الفيلم حول العلاقة المركبة بين أم كلثوم وأبيها، الذي يجسد دوره سيد رجب بإتقان. الفيلم يصور ببراعة انتقال الفتاة الصغيرة من الطفولة إلى المراهقة، ومن الفقر إلى الثراء، ومن التبعية إلى الاستقلال. هذه الفكرة هي أجمل ما في فيلم “الست”، والتعبير الأكثر نضجاً عن موضوعه وعن مغزى وتأثير هذه المرأة القوية على حياة المصريين والعرب.

تراجع في البناء الدرامي وتفاصيل مطموسة

مع بداية النصف الثاني من فيلم “الست”، يبدأ البناء الدرامي في التراجع. ظهور شخصية شريف صبري باشا، التي يؤديها كريم عبد العزيز، يسبب اضطراباً في الرؤية الدرامية. يبدو وكأن بعض المشاهد قد تم تفصيلها خصيصاً لإرضاء ضيوف الشرف، مما أثر على تماسك القصة. كما أن الفيلم يطمس بعض القصص الدرامية المهمة، مثل علاقة أم كلثوم بالشاعر أحمد رامي والملحن محمد القصبجي، ويصورها بشكل ضبابي يحول دون فهم دوافعها.

الفيلم يدرك التعقيدات المتعلقة بالنوع الاجتماعي والطبقة والاختلاف الديني، ولكنه يمر عليها مرور الكرام. هذا التجمد في التعامل مع هذه القضايا يقلل من عمق القصة ويجعلها تبدو سطحية في بعض الأحيان. على الرغم من الجهد الكبير الذي بذله مروان حامد وفريق عمله، إلا أن الكتابة تعاني من مشكلات، مثل الحوار المدرسي المعاصر الذي لا يتناسب مع عصر أم كلثوم.

فيلم “الست”: عمل يستحق المشاهدة والنقاش

فيلم “الست” هو عمل سينمائي جريء ومختلف، يثير الجدل ويشجع على التفكير. على الرغم من بعض العيوب، إلا أنه يظل عملاً يستحق المشاهدة والنقاش. الفيلم يقدم رؤية جديدة ومثيرة للاهتمام حول حياة أم كلثوم، ويبرز قوة وشجاعة هذه المرأة الاستثنائية. الفيلم يفتح الباب أمام المزيد من الأعمال التي تتناول حياة الشخصيات التاريخية والفنية بجرأة وإبداع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى