“عصيان الأوامر العسكرية”.. سجال سياسي متصاعد بين ترمب ومشرعين أميركيين

على خلفية اتهامات بالخيانة، يتصاعد الخلاف في واشنطن بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب ومجموعة من مشرّعين ديمقراطيين، شجّعوا الجنود والعاملين في الجيش على رفض تنفيذ “الأوامر غير القانونية”. هذا التصعيد أثار جدلاً واسعاً حول حدود السلطة العسكرية، ومسؤولية الجنود الفردية، وحقوق المشرّعين في الإشراف على عمل السلطة التنفيذية. وتأتي هذه الأحداث في ظل تنفيذ إدارة ترمب لعمليات عسكرية مثيرة للجدل في منطقة البحر الكاريبي، مما زاد من حدة التوتر السياسي والقانوني.
تصاعد الأزمة: اتهامات بالتحريض وتهديدات بالمحاكمة
بدأ الخلاف عندما دعا ستة نواب ديمقراطيين، في 18 نوفمبر، الجنود والعاملين في الجيش إلى عدم الامتثال للأوامر التي يرونها غير قانونية. رد الرئيس ترمب سريعاً، متهمًا إياهم بـ”السلوك التحريضي” ومطالباً بـ”اعتقالهم ومحاكمتهم”، بل وذهب إلى حد القول إن أفعالهم قد “تعاقب بالإعدام”. هذه التصريحات النارية أثارت صدمة واسعة النطاق وأدت إلى تصعيد حاد في حدة الخلاف.
وفي تطور لاحق، طلب مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) إجراء مقابلات مع المشرّعين الستة لتحديد ما إذا كانت هناك أي مخالفات قانونية. رد أربعة من النواب على هذا الطلب، مؤكدين أنهم “لن يتوقفوا عن القيام بواجباتهم واحترام دستورهم، مهما بلغت التهديدات أو المضايقات”. هذا الرفض التعاوني عزز من فكرة أن المشرّعين يرون أنفسهم مدافعين عن مبادئ دستورية أساسية.
البنتاجون يهدد بإعادة السيناتور كيلي للخدمة
قبل تحرك مكتب التحقيقات الفيدرالي بيوم، لوّح البنتاجون بإمكانية استدعاء السيناتور مارك كيلي، وهو ضابط سابق في البحرية وأحد المشرّعين الستة، للعودة إلى الخدمة العسكرية الفعلية. الهدف من ذلك كان تمهيد الطريق لبحث توجيه اتهامات عسكرية محتملة إليه. وزير الدفاع بيت هيجسيث وصف تصرف كيلي بأنه سلوك “تحريضي” عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مما أدى إلى هذا التهديد. هذا الإجراء أثار تساؤلات حول مدى سلطة البنتاجون في التعامل مع المشرّعين المنتقدين لسياساته.
قانونية الأوامر العسكرية: جدل مستمر
يثير هذا الخلاف تساؤلات مهمة حول قانونية الأوامر العسكرية، وحقوق الجنود في رفض تنفيذها. فمن جهة، يفرض القانون العسكري الأميركي واجبًا على الجنود بطاعة الأوامر، ومن جهة أخرى، يلزمهم برفض الأوامر التي يرونها غير قانونية بشكل واضح. ولكن كيف يمكن للجنود تحديد ما إذا كان الأمر غير قانوني؟
الضربات في البحر الكاريبي: خلفية الأزمة
تأتي دعوة المشرّعين الديمقراطيين في وقت تنفذ فيه إدارة ترمب ضربات عسكرية في منطقة البحر الكاريبي قبالة سواحل فنزويلا. فقد شنت الولايات المتحدة، منذ بداية سبتمبر الماضي، حوالي 14 غارة جوية على قوارب في البحر الكاريبي والمحيط الهادئ، مما أسفر عن مقتل أكثر من 60 شخصًا. وبرر ترمب هذه الأوامر بأنها تستهدف “عصابات المخدرات”.
لكن هذه العمليات أثارت انتقادات واسعة النطاق. السيناتور الديمقراطي روبن جاليجو وصف الهجمات بأنها “جريمة قتل مُصرّح بها”، بينما اعتبر السيناتور الجمهوري راند بول أنها ترقى إلى “إعدامات خارج نطاق القضاء”. وأشار بول إلى أن الإدارة لم تقدم أي أدلة تدعم ادعاءاتها حول طبيعة الشحنات أو هوية الأشخاص على متن القوارب. هذا النقص في الشفافية والأدلة زاد من قلق العديد من الأطراف.
“مخاوف الجنود” واللجوء إلى المساعدة القانونية
أفادت السيناتور إليسا سلوتكين، وهي محللة سابقة في وكالة المخابرات المركزية، بأنها تلقت من جنود في الخدمة الفعلية مخاوف بشأن قانونية العمليات في البحر الكاريبي. وأضافت أن بعض الجنود تساءلوا عما إذا كان يمكن تحميلهم المسؤولية الشخصية عن الوفيات.
هذه المخاوف انعكست في لجوء عدد متزايد من العسكريين الأميركيين إلى منظمات قانونية مستقلة، مثل “مشروع الأوامر”. تواصل ضباط مشاركون في التخطيط لهجمات بحرية، وأفراد من الحرس الوطني، وحتى آخرون لديهم مخاوف من التواطؤ في انتهاكات محتملة في غزة، مع هذه المنظمات للحصول على المشورة القانونية.
مسؤولية الأفراد في القانون العسكري
وفقًا لتشارلي كاربنتر، أستاذة العلوم السياسية في جامعة ماساتشوستس، فإن “مخاوف الجنود من تنفيذ الأوامر غير القانونية حقيقية وحاضرة بشكل كبير”. وأكدت أن القانون العسكري الأميركي (UCMJ) يفرض واجبًا على العسكريين بطاعة الأوامر، ولكنه في الوقت نفسه يلزمهم برفض الأوامر غير القانونية.
ولكن تحديد ما إذا كان الأمر غير قانوني يعتمد بشكل كبير على “الفطرة” والتقدير الشخصي. فدليل المحاكمات العسكرية يصف الأمر غير القانوني بأنه الأمر الذي يمكن لأي شخص عادي أن يدرك أنه خاطئ أو يمثل انتهاكًا للقانون الدولي أو المحلي. وفي هذا السياق، فإن مبدأ المسؤولية الفردية يظل حجر الزاوية في القانون الدولي والإنساني.
دروس من التاريخ: نورمبرج وماي لاي
يشير التاريخ إلى أن الجنود يمكن أن يواجهوا عواقب وخيمة لتنفيذ أوامر غير قانونية. فقد جرت محاكمات نورمبرج بعد الحرب العالمية الثانية لمحاكمة قادة نازيين على جرائمهم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، وأقرت المحاكمات بمبدأ المسؤولية الفردية.
كما أن قضية ماي لاي في فيتنام عام 1968، حيث ارتكب جنود أميركيون جرائم حرب ضد المدنيين، تؤكد على هذا المبدأ. فقد تمت محاسبة المسؤولين العسكريين عن هذه الانتهاكات، بعد أن رفضت هيئة المحلفين دفاعهم القائم على “اتباع الأوامر العليا”.
هل كان تصرف المشرّعين “تحريضياً”؟
يرى خبراء قانونيون أن وصف دعوة المشرّعين بأنها “تحريضية” غير دقيق. فقد أوضح مارك جريبر، أستاذ القانون الدستوري، أن القانون الأميركي لا يعتبر الكلام جريمة إلا إذا كان يدفع الناس فوراً لارتكاب عمل غير قانوني يسبب ضرراً كبيراً. وبما أن دعوة المشرّعين كانت عقلانية وليست اندفاعية، ولم تشجع على أي سلوك مخالف للقانون، فإنها لا تعتبر تحريضاً.
بالإضافة إلى ذلك، فإن القانون نفسه يلزم العسكريين برفض الأوامر غير القانونية، وبالتالي فإن الدعوة إلى ذلك لا يمكن اعتبارها جريمة. ويؤكد إيليا سمون، أستاذ القانون بجامعة جورج ميسون، على أن ما فعله أعضاء الكونجرس يندرج تحت حرية التعبير.
الخلاصة: توازن السلطات ومستقبل القانون العسكري
يثير هذا الخلاف تساؤلات مهمة حول توازن السلطات بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، وحقوق الجنود في رفض تنفيذ الأوامر غير القانونية. من الواضح أن هناك حاجة إلى مزيد من الشفافية والمساءلة في العمليات العسكرية، وإلى حماية العسكريين الذين يرفضون تنفيذ الأوامر التي يرونها غير قانونية. هذه القضية ستشكل سابقة مهمة في مستقبل القانون العسكري والحقوق المدنية في الولايات المتحدة. من الضروري متابعة التطورات القانونية والسياسية لهذه الأزمة، وفهم تأثيرها على الجيش الأميركي وعلى الديمقراطية الأميركية بشكل عام.












