“ضد السينما”.. النسيان فيما يخص الذاكرة جريمة

يمثل السينما السعودية قصة كفاح فريدة، مليئة بالمنع والمحاولات الدؤوبة للتعبير. هذه القصة، التي تكشفت فصولها عبر عقود، وجدت لها صدى خاصاً في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، الذي كان شاهداً على بدايات هذا الحراك. ففي عام 2020، افتتح الفيلم الروائي السعودي “حد الطار” للمخرج عبد العزيز الشلاحي فعاليات مسابقة آفاق السينما العربية، محققاً بذلك إنجازاً مهماً. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل حصد الفيلم جائزة لجنة التحكيم الخاصة (صلاح أبو سيف)، وجائزة أفضل ممثل لفيصل الدوخي. وفي الدورة التالية، كانت آفاق السينما العربية محطة انطلاق الفيلم السعودي الجماعي “بلوغ”، وهو عمل يمثل إنجازاً لخمس مخرجات سعوديات شابات، ويعلن عن تحول كبير في المشهد السينمائي بالمملكة بعد السماح بإنشاء دور العرض في عام 2017. هذا العام، يعود الفيلم السعودي إلى مهرجان القاهرة بدورته الـ 46، ليقدم لنا وثيقة سينمائية مؤثرة بعنوان “ضد السينما” للمخرج علي سعيد.
“ضد السينما”: رحلة في ذاكرة المنع والإبداع
الفيلم الوثائقي “ضد السينما” ليس مجرد سرد لتاريخ السينما في السعودية، بل هو تأمل في حالة الكبت والإحباط التي عاشها جيل كامل من السينمائيين والمثقفين. على الرغم من حصوله على جائزة لجنة التحكيم الخاصة، إلا أن الفيلم أثار نقاشات واسعة بسبب الكم الهائل من المعلومات والشهادات التي يقدمها. يُعد الفيلم بمثابة تحقيق تاريخي شامل، يكشف عن تفاصيل لم تخرج إلى النور من قبل، ويكشف عن الوجه الخفي للصراع بين الإبداع والرقابة. مثل “بلوغ” و”حد الطار”، يسلط الضوء على التطورات المتسارعة في السينما السعودية بعد سنوات من الحظر.
بدايات القمع: جون بروش وجدة عام 1918
يبدأ فيلم “ضد السينما” في لحظة تاريخية مربكة، وهي طرد المصور الفرنسي جون بروش من الجزيرة العربية عام 1918، بعد قدومه بآلات التصوير والعرض السينمائي إلى جدة. هذه الواقعة، التي يرويها المخرج علي سعيد بصوته، تمثل بداية الصراع بين السينما والقوى المحافظة في المملكة. اختيار علي سعيد لنفسه كسارد للقصة يمنح الفيلم طابعاً شخصياً وحميمياً، ويجعل من تجربته جزءاً لا يتجزأ من السرد التاريخي. إنها ليست مجرد قصة سينما، بل قصة جيل كامل عاش في ظل المنع والحرمان.
جيل الثمانينات: السينما عبر شرائط الفيديو
يكشف الفيلم عن كيف تعرف جيل الثمانينات على السينما عبر شرائط الفيديو، بعد حادثة جهيمان عام 1979. هذه الفترة، التي شهدت تصاعداً في الحركات المتشددة، زادت من صعوبة ممارسة الإبداع السينمائي. ليتحول صوت علي سعيد إلى صوت هذا الجيل، يطلق شهاداته بكل صراحة وإخلاص وألم. سرده الدرامي الذكي يخلق شخصية مرتبطة بمعاناة المشاهدين، ويجعلهم يشعرون بالظلم والإحباط.
“ضد الزمن”: بنية سردية فريدة
يتميز فيلم “ضد السينما” ببنيته الزمنية الحرة، التي تسمح للمخرج بالانتقال بين الماضي والحاضر بسلاسة. هذه التقنية السردية تخلق مستويات متعددة من التلقي، وتتيح للمشاهدين التعمق في القصة والتفاعل معها بشكل أكبر. يستخدم المخرج تقنية المونتاج ببراعة، مما يجعله يبدو وكأن كل من شارك في الفيلم يعرف ما قاله الآخرون. الفيلم لا يقتصر على سرد الأحداث، بل ينقل المشاعر والأحاسيس التي عاشها صناع السينما والمثقفون السعوديون.
“ضد سادول”: تصحيح المفاهيم التاريخية
لا يكتفي علي سعيد بسرد معاناة السينمائيين، بل يذهب إلى أبعد من ذلك، ويستخدم الفيلم للرد على الكتابات التاريخية الخاطئة حول تاريخ السينما في السعودية. يستدعي المخرج مقولة السينمائي الفرنسي جورج سادول، الذي زعم أن السعودية لم تعرف السينما حتى عام 1965، ويفندها بتقديم أدلة تاريخية قاطعة. يكشف الفيلم عن وجود أفلام تسجيلية تم تصويرها في المملكة في أعوام 38 و 56، بما في ذلك رحلة الحج المصرية التي ظهر فيها الملك عبد العزيز بنفسه. بالإضافة إلى ذلك، يعثر على وثائق تثبت استيراد أفلام من مصر للعرض في المملكة في بداية الخمسينيات. هذه الاكتشافات تعيد كتابة تاريخ السينما السعودية، وتبرز الدور الرائد الذي لعبته المملكة في هذا المجال.
دور “أرامكو” في دعم السينما
يُسلط الفيلم الضوء على الدور الذي لعبته شركة “أرامكو” في دعم السينما في المنطقة الشرقية من المملكة. يعرض الفيلم لقطات من أفلام تسجيلية ملونة أنتجتها “أرامكو” في الخمسينيات والستينيات، والتي كانت تعرض في المدارس من أجل التوعية والتحذير. هذه الأفلام، على الرغم من كونها أفلاماً توعية، إلا أنها تمثل خطوة مهمة في طريق تعريف الجمهور بالسينما.
“ضد اليأس”: مقاومة القوى المحافظة
يتناول الفيلم محاولات السينمائيين والمثقفين السعوديين لمقاومة اليأس في الفترة بين عامي 2010 و 2015. يكشف الفيلم عن التحديات التي واجهوها في محاولة إقامة مهرجانات سينمائية، وعروض سينمائية في النوادي الأدبية. كما يبرز دور الإنترنت واليوتيوب في توفير منصة لعرض الأفلام والأفكار، بعيداً عن الرقابة والقمع. هذه الفترة تمثل نقطة تحول في تاريخ السينما السعودية، حيث أصبح صناع السينما أكثر جرأة في التعبير عن آرائهم وأفكارهم.
خلاصة: فيلم يغير نظرتنا إلى السينما السعودية
فيلم “ضد السينما” ليس مجرد وثيقة سينمائية، بل هو صرخة مدوية في وجه القمع والإحباط. الفيلم يقدم لنا قصة كفاح ملهمة، ويبرز قوة الإبداع والإصرار. على الرغم من بعض الملاحظات المتعلقة بالبناء السردي، إلا أن الفيلم يظل تجربة سينمائية فريدة ومؤثرة، تستحق المشاهدة والتقدير. دعوة لمشاهدة الفيلم، ليست فقط للاستمتاع بعمل سينمائي متميز، بل أيضاً لفهم تاريخ السينما السعودية والوقوف على تحدياتها ومستقبلها.












