ذكريات أراجوز وبطاطا عن مراهنات ورشاوي دورات الكرة الشراب

في منتصف القرن الماضي، قبل أن تسيطر الأضواء الكاشفة على ملاعب كرة القدم الحديثة، كانت هناك لعبة أخرى تحظى بشعبية جارفة في مصر، تُعرف باسم الكرة الشراب. لم تكن مجرد هواية، بل كانت شغفًا يجمع الجماهير ويثير حماسهم، وتشهد ملاعبها حضوراً جماهيرياً يفوق في بعض الأحيان مباريات كرة القدم التقليدية. هذه اللعبة، التي تجمع بين البساطة والإثارة، تحمل في طياتها قصصًا مثيرة عن المنافسة والشرف والمواقف الأخلاقية التي تستحق أن تُروى.
نشأة وشهرة الكرة الشراب في مصر
كانت الكرة الشراب في أوجها في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، حيث كانت تمثل بديلاً ممتعًا ومتاحًا للشباب في الأحياء الشعبية. تتشابه قوانينها بشكل كبير مع كرة القدم الكبيرة، ولكن داخل مساحة أصغر، مع فرق بسيطة مثل عدم وجود تسلل. يقول محيي أراجوز، وهو أحد أساطير هذه اللعبة: “الفرق بين الكرة الشراب والكرة الكبيرة كان يكمن في حجم الملعب وعدم وجود قاعدة التسلل، أما رمية التماس فكانت تُنفذ باليد كما في الملاعب الكبيرة، وبقية القوانين كانت مطابقة لقوانين الدوري الممتاز.”
لم تكن هذه اللعبة مجرد ترفيه، بل كانت منصة لتنافس حقيقي، حيث كانت الفرق تتشكل من أبناء الحواري، وتعتبر الفوز في مباراة الكرة الشراب بمثابة إنجاز كبير يحظى بتقدير واحترام الجميع.
المراهنات والفساد: وجه مظلم للعبة شعبية
ازدادت شعبية الكرة الشراب بشكل كبير، مما أدى إلى تدفق الأموال والمراهنات عليها. كانت المراهنات بين الأفراد على الفريق الفائز أمرًا شائعًا، ولكن الأمور تغيرت مع دخول المستثمرين إلى اللعبة. بدأ المستثمرون في تكوين فرق ودعمها ماديًا، بهدف تحقيق الفوز وكسب المزيد من الأموال.
يسترجع أراجوز هذه الفترة قائلاً: “المراهنات كانت موجودة بالطبع، ولكنها أصبحت أكثر تنظيمًا واحترافية مع دخول المستثمرين. المستثمر يتحمل جميع التكاليف مقابل أن يلعب الفريق باسمه”. لم يقتصر الأمر على المراهنات، بل امتد إلى محاولات التأثير على نتائج المباريات من خلال تقديم الرشاوى للاعبين، بهدف “تفويت” المباراة.
قصص عن رفض الرشاوى والحفاظ على الشرف
يقول أراجوز إنه تعرض لمحاولات عديدة لإقناعه بترك فريقه يخسر مقابل مبالغ مالية، لكنه كان يرفض ذلك تمامًا. لم يكن أراجوز وحده في هذا الموقف، حيث يروي مجدي إمام، نجم آخر من نجوم الكرة الشراب، تعرضه لمثل هذا الموقف في دورة بالقللي. عرض عليه أحد الأشخاص 10 جنيهات رشوة لترك فريقه يخسر، وذلك خوفًا من مواجهته في المباراة.
إمام لم يكن مستعدًا للتنازل عن مبادئه، وشعر بالغضب والاستياء من هذا العرض. كان يعتبر أن هذا العرض يقلل من قيمته كلاعب، ويشكك في ولائه لفريقه. وبدلاً من الاستسلام، قرر إمام أن يقدم أداءً قويًا ومميزًا، ليثبت أنه يلعب من أجل الشرف والانتصار، وليس من أجل المال. ونجح في قيادة فريقه للفوز، مؤكدًا بذلك أن الأخلاق والقيم أهم من أي مبلغ مالي.
الاحترافية غير المتوقعة وجوائز قيمة
على الرغم من أن الكرة الشراب كانت تعتبر في البداية مجرد لعبة شعبية، إلا أن التنظيم والاحترافية في دوراتها وبطولاتها كانا مدهشين. يقول أراجوز إن الجوائز التي كانت تُقدم في هذه البطولات لم تكن أقل من الجوائز التي تُقدم للفرق المحترفة في الدوري المصري. كان هذا دليلًا على الاهتمام الكبير الذي كانت تحظى به الكرة الشراب من المنظمين والجمهور على حد سواء.
تراجع الكرة الشراب وظهور تحديات جديدة
مع مرور الوقت، بدأت شعبية الكرة الشراب في التراجع تدريجيًا، مع ظهور أشكال أخرى من الترفيه والرياضة، وتطور كرة القدم الاحترافية. ومع ذلك، لا تزال ذكريات هذه اللعبة الشعبية حية في أذهان الكثيرين، الذين قضوا ساعات طويلة في متابعة مبارياتها وتشجيع فرقهم المفضلة. تظل الكرة الشراب رمزًا لبساطة الماضي، وشغف الشباب، وقيم الشرف والأخلاق.
في الختام، يمكن القول أن الكرة الشراب كانت أكثر من مجرد لعبة، كانت ظاهرة اجتماعية وثقافية تركت بصمة واضحة في تاريخ الرياضة المصرية. إنها قصة تستحق أن تُروى وتُخلد، لتذكرنا بأيام الزمن الجميل، وقيم الأصالة والروح الرياضية. شاركنا ذكرياتك عن الكرة الشراب أو أي لعبة شعبية أخرى كنت تمارسها في طفولتك في قسم التعليقات أدناه!












