اخبار الكويت

نوع من الجنون بقلم د يعقوب يوسف الغنيم

بقلم: د. يعقوب يوسف الغنيم

يطلق لفظ الجنون على كثير من الحالات العابرة في حياة الإنسان، أو التي يتعرض لها طوال سني عمره، وقد خرجت معاني الجنون عن المعنى المألوف الذي يدل على ذهاب العقل، لكي تأتي إلى جانبها معان أخرى من المفيد ذكرها هنا: – يبدو أن لفظي «مجنون» و«الجنون» قد جاءا من المعنى العربي للفظ (جن) بمعنى ستر، لأن هذا الذي يحدث للمجنون من الناس يغطي – فيما يرى الناطقون بهذا اللفظ – عقله حتى لا يكاد يميز الأشياء، ومن ذلك قولهم: «سار فلان في طريقه حتى جنه الليل»، أي: غطاه.

وقال أحد العلماء الأوائل من المسلمين في تفسير قوله عز وجل: (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا): «يقال: جن عليه الليل، وأجنه الليل، إذا أظلم حتى ستره بظلمته».

– وورد في العربية الفصحى قول العرب: «تجنن فلان أمام صاحبه بمعنى أظهر له أنه مجنون». وفي لهجتنا نقول: «فلان إيتجينن بالمعنى نفسه».

– وجاء لفظ الجنون بمعنى آخر نراه في الحديث الشريف، وفحواه قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أعوذ بك من جنون العمل» أي من الإعجاب والزهو.

– ومن الألفاظ السائرة على ألسنة قدامى العرب في تسمية النباتات إذا كانت كثيرة ومتشابكة، ما ذكره مؤلف كتاب «لسان العرب» في قوله: «وقيل: جن النبت جنونا غلط واكتمل»، وأضاف: «يقال: مررت على أرض هادرة متجننة، وهي التي تهال من عشبها.

وجنت الأرض جنونا: إذا اعتم نبتها، أي زاد نماؤه». وفي جنوبي الكويت، على بعد 32 كيلومترا من العاصمة، منطقة سكنية اسمها: المهبولة، وهذا اللفظ يرادف لفظ المجنونة المنطوق به في الفصحى، وقد مر بنا ذكر ذلك في مقال سابق، وجرى هناك وصف هذه الأرض ونباتها الكثيف الذي أكسبها هذا الاسم.

– وفي لهجتنا تقول النساء، وعلى الأخص صغيرات السن منهن، عن الشيء الذي يرينه فائق الجمال مثيرا للإعجاب: إيجنن، وتنطق الجيم ياء وما يقصدنه هو التعبير عن الإعجاب الشديد بما رأين أو سمعن.

أقرأ في الكتب التي تتناول تاريخ الأدب العربي عن الأحداث التي جرت لبعض الشعراء جراء تعلقهم بمن أحبوهن من الفتيات، حتى استفاض ذكرهم بين الناس على هذه الصورة.

وكان شعرهم شاهدا عليهم. ولم ينظر الناس إلى ذلك بنظرة الاستغراب ولا التحقير، بل حاول كثيرون من أولئك الناس الجمع بين المحبين بالزواج، ولكن طبيعة المجتمع العربي القديم أبت إلا حرمان من يتغزل بفتاته قبل أن يرتبط معها بالزواج، وكان معاصرو أولئك العشاق الذين كانوا شعراء لا يرون في حبهم ما يخالف العرف والأخلاق، ولذا عرف عنهم أنهم أصحاب الحب العفيف الذي لا تشوب صاحبه شائبة حتى لقد قال واحد من هؤلاء الشعراء:

وإني لأرضى من بثينة بالذي

لو أبصره الواشي لقرت بلابله

بلا وبأن لا أستطيع وبالمنى

وبالأمل المرجو قد خاب آمله

وبالنظرة العجلى وبالحول ينقضي

أواخره لا نلتقي وأوائله

كان هذا الشاعر هو: جميل بن معمر الذي عرف باسم: جميل بثينة، وجميل هذا كان صادق الصبابة والعشق، لكن آخرين من الشعراء قلدوه فمثلوا دور المحبين ومن هؤلاء الشاعر كثير ابن عبدالرحمن الشهير باسم: كثير عزة، وقد قارن الشاعر نصيب عنهما من حيث مكانتهما الشعرية فقال: أنا سألت كثيرا عن ذلك فقال: هو وطأ لنا النسيب (الغزل).

وكان نصيب هذا يقول: جميل إمام العاشقين.

واشتهر جميل بن معمر بحبه لبثينة بنت حيان التي تغزل بها في شعره كثيرا، وكان أول ما قاد المودة بينهما أنه كان يسقي إبله في موضع بالبادية، يقول الأصفهاني في كتابه «الأغاني»:

«وأقبلت بثينة وجارة لها واردتين الماء، فمرتا على فصال له بروك (باركات) فعرفتهن بثينة، أي فعرفتهن وهي صغيرة السن يومذاك، فسبها جميل فاتجهت إليه بمثل ما فعل، فأعجب بها وقال:

وأول ما قاد المودة بيننا

بوادي بغيض يا بثين سباب

فقالت لنا قولا وقلنا بمثله

لكل كلام يا بثين جواب

وقد أكثر جميل شعر الغزل بها، وكان يتحين الفرص لزيارتها، وقد عانى كثيرا في محاولاته لرؤيتها في الوقت الذي كان أهلها فيه يتربصون به من أجل معاقبته، وقد قال في ذلك:

فليت رجالا فيك قد نذروا دمي

وهموا بقتلي يا بثين لقوني

إذا ما رأوني طالعا من ثنية

يقولون من هذا وقد عرفوني

وأعينهم شذرا إلي كأنها

حروف سيوف في غموض جفون

يقولون لي أهلا وسهلا ومرحبا

ولو ظفروا بي ساعة قتلوني

واستمر جميل على حاله، وصدق حبه لبثينة متحملا الصعاب في سبيلها، حتى لامه صحبه، وطالبوه بنسيانها وبخاصة بعد أن زوجها أهلها بغيره، وقد كان رده على واحد من هؤلاء حاسما يدل على أنه لا فائدة من نصحه له في هذا الشأن وقد قال له وهو يبكي:

«يا أخي لو ملكت اختياري لكان ما قلت صوابا، ولكنني لا أملك الاختيار، وما أنا إلا كالأسير لا يملك لنفسه نفعا…».

ونزل قضاء الله عز وجل بجميل بن معمر العذري وكانت وفاته في مصر، وصادف رجلا حضره قبل وفاته بقليل وكان بينهما حديث طلب فيه جميل من هذا الرجل أن يبلغ بثينة بأنه قد رحل إلى العالم الآخر. وقد نفذ الرجل الوصية، وفيما رواه الأصفهاني عن هذا الرجل قوله:

«فلما قضى وواريته أتيت رهط بثينة وفعلت ما أمرني به جميل، فما استتممت الأبيات حتى برزت امرأة تتبعها نسوة قد فرعتهن طولا وبرزت أمامهن كأنها بدر قد برق في دجنة وهي تتعثر في مرطها، فقالت لي: يا هذا، إن كنت صادقا فقد قتلتني، وإن كنت كاذبا فقد فضحتني، فقلت: لا والله بل صادقا. وأخرجت حلته، فلما رأتها صاحت بأعلى صوتها وصكت وجهها، واجتمع نساء الحي يبكين معها ويند بنه حتى صعقت فمكثت مغشيا عليها ساعة، ثم قامت وهي تقول:

وإن سلوى عن جميل لساعة

من الدهر ما آبت ولا حان حينها

سواءٌ علينا يا جميلُ بن معمر

إذا متَّ بأساءُ الحياة ولينُها

قال: فما رأيت أكثر من ذلك اليوم باكيا وباكية».

* * *

وممن يذكر من الشعراء في هذا المجال الشاعر كثير بن عبدالرحمن الذي قال قصائد كثيرة في عزة بنت جميل بن حفص وهي من بني حاجب، وكان يطلق عليها في قصائده أحيانا اسم: الحاجبية، ولكنه كان يتناول في شعره كافة أغراض الشعر ويبدع في ذلك، فقد برع في الغزل والمدح، ولا يكاد شعره يخلو من ذكر عزة، فقد أكثر من وصفها، وبيان حبه لها، وألمه لفراقها.

ولقد أكثر من ذكرها حتى ارتبط اسمه بها فأطلق عليه اسم: كثير عزة، ولقد اشتهرت هي بذلك في كل مكان. ومما يروى في هذا الشأن، ما ذكره الأصفهاني في كتابه الأغاني:

«دخلت عزة على عبدالملك بن مروان، وقد عجزت، فقال لها: «انت عزة كثير؟» فقالت: أنا عزة بن جميل، قال: أنت التي يقول فيك كثير:

لعزة نار ما تبوخ كأنها

إذا ما رمقناها من البعد كوكب

فما الذي أعجبه منك؟ فقالت له: أعجبه مني ما أعجب الناس منك، حيث صيروك خليفة». وكان له سن سوداء يخفيها، فضحك حتى بدت فقالت له: «هذا الذي أردت أن أبديه». فقال لها: «هل تروين قول كثير:

وقد زعمت أن تغيرت بعدها

ومن ذا الذي يا عز لا يتغير

تغير جسمي والخليقة كالذي

عهدت ولم يخبر بسرك مخبر

فقالت: «لا ولكني أروي قوله:

كأني أنادي صخرة حين أعرضت

من الصم لو تمشى بها العصم زلّت

صفوحاً فما تلقاك إلا بخيلةً

فمن ملّ منها ذلك الوصل ملّت

ولقد استفاض الناس في ذكر عزة وكثير، ورووا حكاياتهما حتى صار ذكرهما على كل لسان، وقد أعجب هؤلاء الناس بعفة كثير وعزة، على الرغم من المودة الطاغية التي تجمعهما، ويروى في ذلك ما رواه الأصفهاني أيضا:

«كان لكثير غلام تاجر، فباع امرأة بعض متاعه، فمطلته مدة، وهو لا يعرفها، فقال لها يوما: «أنت والله كما قال مولاي:

قضى كل ذي دين فوفى غريمه

وعزة ممطول معنّى غريمها»

فانصرفت خجلة، فقالت له امرأة: «أتعرف عزة؟» قال: «لا والله»، قالت: «فهذه عزة». فقال: لا جرم لا آخذ منها شيئا أبدا، ولا أقتضيها»، فرجع إلى مولاه، فأخبره بذلك فأعتقه، ووهب له المال الذي كان في يده.

ومن أشهر قصائده فيها القصيدة التي يقول مطلعها:

خليلي هذا ربع عزة فاعقلا

قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلّت

يقول يا صاحبي هذا هو المكان الذي كانت عزة تسكنه، فاربطا ناقتكما ثم أبكيا تذكّرا لها ولأيامها الجميلة.

ومن هذه القصيدة قوله في عفتها وطيب عنصرها:

كأني أنادي صخرة حين أعرضت

من الصم لو تمشي بها العصم زلّت

صفوح فما تلقاك إلا بخيلة

فمن ملّ منها ذلك الوصل ملّت

أباحت حمى لم يرعه الناس قبلها

وحلّت تِلاعا لم تكن قبل حلّت

وقد توفي كثير عزة في سنة 105هـ، وكان لوفاته وقع شديد على الذين أحبوا شعره، وتابعوا سيرته.

ولم يكن هذا الشاعر من مجانين الشعراء الذين أودى بعقولهم الهيام بمن أحبوهن، ولكنه كان من المشهورين بشعره الكثير الذي أطلقه ذاكرا عزة متشوقا إليها هائما بها حتى صار خبرهما على كل لسان.

* * *

وإذا ذكر العشاق الهائمون من الشعراء فلابد أن يذكر قيس بن الملوح، وهو من أشهر الشعراء العشاق الذين ذهبوا في عشقهم مذهبا بعيدا حتى أثر على عقولهم.

هذا الشاعر من أشهر الشعراء المحبين، وقد ألفت حوله كتب كثيرة، وطبع الديوان الذي يجمع شعره في القاهرة سنة 1935م، كما أعيد طبعه بعد ذلك في عدة طبعات، وكتب عنه أمير الشعراء أحمد شوقي رواية شعرية عنوانها: «مجنون ليلى» وقد جرى تمثيلها بمصر على أحد المسارح هناك، ولحن الفنان محمد عبدالوهاب أقساما منها، وقد طبعت هذه المسرحية في كتاب لا يزال قيد التداول.

ومن أجمل ما ورد في هذه المسرحية، ما جاء على لسان الشاعر قيس بن الملوح وهو:

جبل التوباد حياك الحيا

وسقى الله صبانا ورعى

فيك ناغينا الهوى في مهده

ورضعناه فكنت المرضعا

وعلى سفحك عشنا زمنا

ورعينا غنم الأهل معا

ومنها قوله:

لم تزل ليلى بعيني طفلة

لم تزد عن أمس إلا أصبعا

ما لأحجارك صما كلما

هاج بي الشوق أبت أن تسمعا

ومع ذلك، فإن أول ما يواجه المرء عند ما يقرأ حديث الأصفهاني في كتابه «الأغاني» مما يتعلق بقيس بن الملوح فهو التشكيك في وجود هذا الشاعر، حتى لقد نقل المؤلف عن أحد الرواة الذين سبقوه قوله:

«حديث المجنون وشعره، وضعه فتى من بني أمية كان يهوى ابنة عمّ له، وكان يكره أن يظهر ما بينه وبينها، فوضع حديث المجنون (لكي يعبر من خلاله عما يريد)، وقال هذه الأشعار التي يرويها الناس».

ولئن كان هذا صحيحا فقد صنع هذا الفتى الأموي صنعا جيدا وقال أشعارا لاتزال تروى إلى هذا اليوم، واختلق حكاية خالدة.

أما ما عدا هذا فقد ذكر الأصفهاني حديثا واضح المعالم عن قيس بن الملوح وعشقه لليلى العامرية، وتحدث عن رفض أبيها تزويجه بها، وجنونه إثر ذلك، وما جابه من مشاق جراء ما حمله في قلبه لها، عشقا وألما لعدم تمكنه من الزواج بها.

وقد بذل أبوه كل جهده لمساعدته والتخفيف عنه ابتداء من محاولة إقناع والد ليلى بقبول تزويجه بها، ولم يحصل على ما يريده منه، وانتهاء بعرضه على الأطباء والعرافين، وأخذه معه إلى البيت الحرام لعله يدعو فيكشف الله عنه ما به.

ولم يكن رفض والد ليلى لزواج ابنته من قيس إلا لأن قيسا قد قال فيها شعرا يتغزل بها فيه، وهذا في عرفهم أمر غير مقبول؛ لأنه يوحي بوجود علاقة بين المقبل على الزواج والفتاة التي تقدم لخطبتها.

وكان آخر جهد والد قيس هو أخذه معه إلى مكة المكرمة كما ذكرنا آنفا، والطلب منه أن يتعلق بأستار الكعبة ويدعو الله عز وجل أن يخلصه من هذا الذي ألم به بسبب رفض والد ليلى تزويجها منه، ولكن قيسا عندما وقف ذلك الموقف كما أمره أبوه هتف قائلا: «اللهم زدني بليلى حبا، وبها كلفا، ولا تُنسني ذكرها أبدا».

يقول الأصفهاني:

«فهام بها حينئذ واخلط فلم ينتظم، وصار يهيم في البرية مع الوحش ولا يأكل إلا ما ينبت فيها من الأعشاب، ولا يشرب إلا مع الظباء».

ثم يضيف قائلا:

«وطال شعر رأسه وجسده، وألفته الوحوش، فكانت لا تنفر منه، وكان يهيم في الأرض».

ولقد أطالت كتب الأدب الحديث عن قيس بن الملوح وليلاه، وعن شعره الذي اختلف فيه الرواة حتى لقد أنكر بعضهم وجوده كما أنكره السابقون وفق ما رأينا في الذي مر بنا من حديث.

ونرى اليوم لقيس بن الملوح ديوان شعر صغير الحجم جمعه ورتبه أبوبكر الوالبي، وحققه وشرحه جلال الدين الحلبي، وقدم له الدكتور زكي مبارك، وهذه الطبعة قديمة، فقد صدرت في سنة 1930م، وقد مرت بنا إشارة عاجلة إلى ذلك.

ومما جاء في هذا الديوان من شعر، قول قيس:

لو سيل أهل الهوى من بعد موتهم

هل فرجت عنكم مذ متم الكرب

لقال صادقهم أن قد بلي جسدي

لكن نار الهوى في القلب تلتهب

وقوله:

أحبك حبا لو تحبين مثله

أصابك من وجد علي جنون

وصرت بقلب عاش أمّا نهاره

فحزن وأما ليله فأنين

* * *

وانتشرت – بعد ذلك – حكاية ليلى ومجنونها قيس بن الملوح في الآفاق، وصارت على كل لسان. وتحولت هذه الحكاية إلى أسطورة تداولها الصوفيون، وألهمت عددا من كتاب الغرب والشرق حتى انتشرت هذه الحكاية في أذهان هؤلاء إلى أن صارت في صورة بعيدة عن حقيقة البيئة العربية التي نشأت فيها حقيقة أو خيالا.

ألف أستاذي في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة الدكتور محمد غنيمي هلال، وهو من كبار الكتاب والباحثين في النقد والأدب المقارن، وكان من خريجي جامعة السوربون بباريس كتابا في هذا الموضوع، وأصدر طبعته الثانية التي هي بين يدي الآن في سنة 1971م، وهو بعنوان: «ليلى والمجنون»، ولقد عبر في مقدمته عن الموضوع الذي يحتويه الكتاب فقال:

«موضوع هذه القصة ليلى في جمالها الصوفي كما أضفى على قيس، فتوصل بجمالها إلى الله، وقيس بآرائه الفلسفية في هذه القصة لم تعرفه البيئة العربية، ولكنه أسطورة خلقها فلاسفة التصوف الإسلامي، ليتخذوا منها قالبا لآرائهم في الجمال والحب الإلهيين».

ثم يعرض قصة اشتمل عليها باقي الكتاب هي قصة «ليلى والمجنون» التي كتبها الفيلسوف الفارسي عبدالرحمن الجامي المولود في سنة 1414م، وكان من أبرز فلاسفة الفرس. ولا مجالا هنا لتقدم محتوى الكتاب كله، ولكن التلميحات التي مرت هنا كافية للدلالة على ما فيه.

وبالإضافة إلى ما ذكرناه، فإننا نضيف هنا أمرا لا بد من ذكره، فتشير إلى أن حكاية ليلى وقد صارت رمزا للحب لدى الصوفيين ورد ذكرها في الغناء الديني عندنا في الكويت وعلى الأخص في الأغنية الشهيرة التي غناها عندنا الفنان الكويتي عبدالحميد السيد وقد اختلف الرواة في اسم قائلها وأقربهم إلى الحقيقة فيما أرى هو أحد شاعرين هما: عبدالرحيم المتيم أو عبدالرحيم البرعي، وتراهما بعض المراجع شخصا واحدا.

هذه الأغنية تطلب من السامعين أن يحيوا ليلى، والشاعر يرمز بهذا الاسم للكعبة المشرفة، وهذا هو ما تدل عليه بداية الغناء التي نسمعها كما يلي:

حيوا ليلى حيوا ليلى

وعـلى ليلــــى ســـلام

وتـــرى الكعبـــة تجلــت

واستنــــارت بالغمـــــام

إن جبـرتم كســر قلبـي

أنـتـــم أهــــل التمـــــام

أو هجــرتــم يا الأحبــة

فعلـى ليلــــى الســلام

وهذا الأمر يدل على صحة ما أشرنا إليه من تحول حكاية ليلى والمجنون إلى رمز صوفي، وذلك لأن أبيات هذه الأغنية تغني في الجلسات التي نسميها في الكويت (المالد) بمعنى المولد، والمقصود به مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث يردد الجالسون أناشيد في ذكره وتعظيم قدره.

* * *

لا يزال حديث العشق البشري مستمرا، ومازلنا نرى من بين معاصرينا من مر بحالة تشبه حالة قيس بن الملوح وأمثاله، ومما لابد وأن نذكره من أشباه المحبين القدامى عاشق معاصر وشاعر في الوقت نفسه، أحب وحرم ممن أحب فأصابه ما أصاب شبيهه مجنون ليلى ففقد عقله لشدة ما جرى له، إنه الشاعر السوداني المعاصر إدريس جماع، الذي انقلبت حياته رأسا على عقب إثر حادث عاطفي مماثل للحادث الذي جرى لشبيهه الأول، ففقد عقله مثله.

له ديوان صغير الحجم مطبوع في أكثر من طبعة، وبه قصائد رائعة تدل على عبقرية شعرية نادرة، وقد كتب الأستاذ منير صالح عبدالقادر مقدمة للديوان ورد فيها قوله:

«إدريس محمد جماع صاحب عرفته في مراحل الحياة المختلفة، وعرفته في مراحل متقلبة، وفي أوقات مشرقة وعابسة، مبتسمة ومكشرة، مزدهرة ويابسة، اقتحم ميدانا كان جديدا عليه، وتركني خلفه أرتقب عودته فما عاد، ولاتزال قيثارته ووقعها الحزين أسمعها فأزداد شوقا إلى لقائه».

وورد في المقدمة سرد كاف لسيرة إدريس جماع الذاتية يحتوى على كل ما جرى له، ثم ختمها الكاتب بختام دامع قال فيه:

«أخي جماع سنلتقي فقد تقاربت الخطى ويبست العينان وضعف الجسد وقلت المقاومة فأنت الآن مع صاحبيك محمد محمد علي ومحمد المهدي المجذوب في انتظار حضوري فمكاني ما زال شاغرا وقد قطعت تذكرة العودة وأنا في انتظار القطار فإلى اللقاء».

وكان إدريس جماع قد عشق فتاة من فتيات وطنه، وكان عشقا شديدا غامرا استولى على عقله وقلبه. وقبل أن يرتبط معها بالزواج كما اتفقا أتيحت له فرصة الدراسة بمصر حيث التحق بكلية دار العلوم، فاضطر إلى مواصلة دراسته، وتمنى من حبيبته أن تنتظره. وعندما تخرج وعاد إلى وطنه (السودان) وجدها قد تزوجت غيره بضغط من ولي أمرها الذي أبى أن ينتظر زوجها المنتظر الغائب، وقد هال صاحبنا ذلك حتى فقد عقله أو كاد، وبقي حزينا يقول:

شاء الهوى أم شئت أنت

فمضيت في صمت مضيت

أم هز غصنك طائر

غيري فطرت إليه طرت

وتركتني شـبحا أمـــد

إليك حبـي أيـن رحت

وغــدوت كالمحمــــوم لا

أهذي بغيـر هــواك أنت

أجري.. أفر.. أتوه.. أهرب

في الزحام يضيع صوت

واضيعتــي أأنــــا تركتـ

ـك تذهبين بكل صمت

هذا أوانك يا دمو

عي فاظهري أين اختبأت؟

وكم أتمنى أن لو استطعت تقديم المزيد من شعر هذا الشاعر الذي مر في الحياة مرور البرق في السماء ولكنه ترك أثرا نراه في سيرته وفي شعره.

* * *

هذه نماذج من الحب الجارف الذي يؤدي إلى الجنون حين يواجه المحب بالحرمان. ويكفي أن ما جرى لشعرائنا الذين مر ذكرهم هنا قد منحنا هذا الشعر الجميل الذي أبدعه كل منهم، ومن ذكرتهم ليسوا إلا نماذج يذكرنا إيرادها بعدد كبير من الشعراء الذين عشقوا وعبروا عن عشقهم شعرا رائقا. ويسعدنا أن كل ذلك محفوظ فيما تركه لنا المشتغلون بالعلم والأدب من قدماء أمتنا، ولنا الفخر بهم وبما صنعوا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى