مواطنون يصنعون فرص العمل على مقاس الطموح

في مجتمع اقتصادي سريع النمو، ووسط فرص تجارية ومبادرات حكومية تحفّز ريادة الأعمال، نشهد تحولاً ملحوظاً في توجهات الشباب الإماراتي. لم يعد التمسك بالتخصص الأكاديمي هو الضمان الوحيد للمستقبل المهني، بل أصبحنا نرى العديد من المواطنين يختارون مسارات وظيفية غير تقليدية، مبنية على الشغف، والابتكار، وفهم عميق لاحتياجات السوق. هذه الظاهرة الاجتماعية المتنامية، والتي تتجسد في قصص نجاح ملهمة، تؤكد أن ريادة الأعمال في الإمارات أصبحت خياراً واقعياً وجذاباً للعديد من الخريجين، وأن بناء مستقبل مهني ناجح لا يقتصر على الشهادات الأكاديمية، بل يتطلب أيضاً الجرأة، والمرونة، والقدرة على التكيف مع المتغيرات.
من مقاعد الدراسة إلى عالم الأعمال: قصة نجاح ملهمة
لم تعد قصص الشباب الذين يبتعدون عن تخصصاتهم الأكاديمية للغوص في بحر الأعمال الحرة مجرد استثناءات، بل تحولت إلى نموذج يحتذى به. هؤلاء الرواد الشباب يثبتون يوماً بعد يوم أن النجاح لا يقاس بالدرجات العلمية، بل بالإصرار، والعزيمة، والقدرة على تحويل الأفكار إلى مشاريع واقعية. هذا التحول يعكس أيضاً الدعم الحكومي المتزايد لرواد الأعمال، وتوفير بيئة محفزة للإبداع والابتكار.
ثامر النقبي.. شغف التجارة يتجاوز الهندسة
ثامر النقبي، خريج هندسة إلكترونيات من جامعة كامبريدج المرموقة، يمثل نموذجاً واضحاً لهذا التحول. لم يمنعه تخصصه الهندسي من تحقيق حلمه في عالم التجارة. يقول النقبي مبتسماً: «منذ طفولتي أحب التجارة، كنت أشعر بأن مشروعي الشخصي هو مكاني الطبيعي». بدأ النقبي مشواره بفتح محل لبيع الأدوات المنزلية، ثم توسع ليشمل مشاريع متنوعة مثل “إسطنبول سبا” للرجال و”إيليت سبا” للنساء، بالإضافة إلى تنظيم الحفلات والزفاف، ومحل لبيع الورود والعطور، وحتى مكتب للطباعة وتخليص المعاملات.
لم تخلُ رحلة النقبي من التحديات، فقد واجه أزمة جائحة (كورونا) التي اضطرته لإغلاق مؤقت ودفع رواتب 40 موظفاً، لكنه اعتبر ذلك جزءاً من المسؤولية تجاه فريقه، وهو ما ساهم في تعزيز ولائهم. وينصح النقبي الشباب: «اكسر خوفك.. سخّر هوايتك في ما ينفعك.. كل مؤسسات الدولة تدعمك».
مريم الزعابي.. “ورد مع كوفي” يجمع بين الشغف والتخصص
مريم الزعابي، خريجة هندسة جيولوجية وبترول، اختارت أيضاً أن تسلك طريقاً مختلفاً. لم تستسلم للضغوط الاجتماعية التي تدعوها للعمل في مجال تخصصها، بل قررت أن تتبع شغفها بالورد والتصاميم والطباعة. افتتحت الزعابي مشروعها الأول “مرش”، وهو محل ورد يجمع بين جمال الزهور وراحة المقهى، وكانت أول رخصة بهذا الدمج في رأس الخيمة.
واجهت الزعابي تحديات كبيرة في استيراد الديكور من الخارج، بما في ذلك صعوبات الشحن والنقل، وتلف بعض القطع، لكنها لم تستسلم. ثم توسعت لتشمل مجال العطور والتصاميم والطباعة الأكريليك، مع التركيز على التحديث المستمر لمنتجاتها وخدماتها. تؤكد الزعابي أن التميز يتطلب تحديثاً مستمراً، وأن أكبر تحدٍ واجهته كان استقطاب وتدريب العمال الجدد.
تحول في التوجهات: من الهندسة إلى التجارة
قصة المهندسين عبدالله ومحمد القارة الشحي، خريجي هندسة إلكترونيات الطيران، هي مثال آخر على هذا التحول. بدلاً من البحث عن وظائف في مجال تخصصهم، قررا تأسيس “سبارك هايبر ماركت” في رأس الخيمة، وهو مشروع يندر أن يديره مواطنون بالكامل. يقول عبدالله: «طموحنا أكبر من الدوام»، موضحاً أن العائلة تمتلك خبرة في التجارة، لكن التحدي كان يكمن في إنشاء مشروع ميداني ناجح دون الاعتماد على استشاريين.
على الرغم من عروض العمل والرواتب الثابتة، اختار عبدالله ومحمد “رحلة غير مضمونة”، مؤمنين بأن “الرزق بيد رب العالمين.. لا أخاف من الخسارة”. ويؤكدان على أهمية الشجاعة والقناعة، وعلى الدعم الذي تقدمه الدولة لرواد الأعمال.
دعم حكومي ورؤية مستقبلية لـ ريادة الأعمال
فاطمة الشرهان، عضو مجلس شباب رأس الخيمة وخريجة العلوم التطبيقية، بدأت مشروعها بجمع بقايا القماش وتحويلها إلى منتجات تكنولوجية مبتكرة. حصلت على دعم من صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، وتم عرض مشروعها في (جيتكس)، مما يعكس اهتمام الدولة بدعم المشاريع الناشئة. على الرغم من التحديات التي واجهتها بسبب جائحة (كورونا)، انتقلت الشرهان إلى تصميم وإدارة المشاريع، ثم قررت إنشاء علامة تجارية للحقائب الجلدية الطبيعية (أفينيه)، بالتعاون مع مصنع في إيطاليا.
تؤكد الشرهان أن الدولة توفر بيئة مشجعة للإبداع والابتكار، وأنها واجهت تحديات تتعلق بالتكاليف العالية، والتراخيص، والشحن، لكنها تظل واثقة من قدرتها على تحقيق النجاح. وتقول بثقة: «نحن في دولة المستحيل.. لا شيء لا نستطيع تحقيقه».
وعي متزايد بأهمية المهارات المستقبلية
تؤكد آمنة محمد الشحي، مستشارة الموارد البشرية وتطوير المواهب وريادة الأعمال، أن هذا التحول في توجهات الشباب يعكس وعياً متقدماً بأهمية المهارات المطلوبة في سوق العمل المتغير. وتوضح أن الجيل الحالي ينظر إلى التخصص الجامعي كمرحلة تأسيسية، بينما يركز على بناء مساره المهني استناداً إلى الفرص المستقبلية والمهارات العملية.
وتشير الشحي إلى أن سوق العمل الوطنية أصبحت تقيّم المهارات والقدرات الفعلية بدرجة أكبر من التركيز على الشهادات الجامعية، وهو توجه تعززه البرامج الحكومية الموجهة لتطوير مهارات المواطنين. وتؤكد أن الدولة تسعى إلى بناء جيل يمتلك مهارات متعددة وقادر على قيادة قطاعات المستقبل، سواء كموظفين محترفين أو كرواد أعمال.
الاستقلال المالي و “الفرانشايز” كخيار استثماري
يرى الدكتور عمر المهيري، رائد الأعمال والمحاضر المعتمد، أن الاستقلال المالي هو أحد أهم الأسباب التي تدفع الشباب إلى الأعمال الحرة. ويعتبر نموذج “الفرانشايز” (الامتياز التجاري) خياراً مثالياً، لأنه يوفر نموذجاً مُجرّباً وعلامة تجارية معروفة، ويدعم رواد الأعمال في التشغيل ويقلل المخاطر. ويحذر المهيري من الدخول في مشاريع “الفرانشايز” بدافع الاسم التجاري فقط، دون فهم شروط العقد والسوق.
في الختام، يمكن القول أن التحول الذي نشهده في توجهات الشباب الإماراتي نحو ريادة الأعمال هو مؤشر إيجابي يعكس وعياً متزايداً بأهمية الابتكار، والمرونة، والقدرة على التكيف مع المتغيرات. هذا التحول مدعوم بالدعم الحكومي المتزايد، والبيئة المحفزة للإبداع، والفرص التجارية المتاحة. إنها قصة نجاح ملهمة تثبت أن المستقبل المهني لا يقتصر على التخصصات الأكاديمية، بل يتطلب أيضاً الشغف، والجرأة، والإيمان بالقدرات الذاتية. هل أنت مستعد للانطلاق في رحلتك الريادية؟ شاركنا أفكارك وطموحاتك في التعليقات!












