اخبار مصر

شاهد على 17 قرناً من الأسرار.. ماذا يخفي “حصن الدير” في صحراء الخارجة؟

كتب : محمد الباريسي



12:20 م


30/10/2025


الوادي الجديد – محمد الباريسي:

كشف حصن الدير، القابع على مسافة تقارب 23 كيلومترًا شمال مدينة الخارجة وشرقي قرية تحمل الاسم نفسه، عن طبقاتٍ متعاقبة من التاريخ العسكري والديني في منخفض الخارجة؛ إذ بدا الموقع كأنّه سجلّ حجري مفتوح لطرقٍ صحراوية ربطت وادي النيل بفرشوط، وشهدت تبدّل الوظائف من حصنٍ روماني إلى مركزٍ رهباني ثم شاهدٍ على وقائع حديثة.

انطلقت الحكاية في أواخر القرن الثالث الميلادي؛ إذ جرت إقامة حصنٍ مربع يعود عهده إلى زمن الإمبراطور دقلديانوس (284–305م) أو أحد خلفائه، لحراسة الطريق الصحراوي الحيوي.

يقول الأثري محمد إبراهيم، مدير الآثار بالوادي الجديد، لمصراوي، إن تصميم الحصن اتّسم بصرامة هندسية: أبعادٌ مربعة بمتوسط 74–75 مترًا لكل ضلع، وجدرانٌ شاهقة بارتفاع يناهز 12.5 مترًا وعرضٍ يبلغ 3.6 متر في أعلى الجدار. عند الزوايا جرى توزيع أبراج قطرها بين 6.7 و7.4 متر، وعلى الواجهات أبراج نصف دائرية بعرضٍ يقارب 5 أمتار، يتصل بعضها ببعض بحاجزٍ علوي تُبلغه سلالم داخلية.

وتابع إبراهيم، : يرجّح أن المدخل الوحيد كان في الواجهة الغربية، فيما وفّر بئرٌ عميق بوسط الفناء مياه الحامية، إضافةً إلى شبكة قنوات جوفية ذكية غذّت المباني الخارجية والحقول، بما يعكس إدارة متقدمة للماء في بيئة قاحلة”.

ومع انتقال المنطقة إلى أزمنةٍ متأخرة، حمل الموقع اسم “دير»؛ إذ تُفيد قراءات أثرية بأن الحصن تحوّل لاحقًا إلى تجمعٍ رهباني.

ويقول محمد إبراهيم، مدير آثار الوادي الجديد: “تُفسّر بقايا المدافن القبطية والأكفان الملوّنة في محيط البناء هذا التحوّل الوظيفي، حيث تداخلت تقاليد محلية مع بدايات المسيحية في الواحة”.

أكد الخبير الأثري بهجت محمد إبراهيم أبو صديرة، مدير آثار الوادي الجديد السابق، أنه في القرن التاسع عشر، بدأ سجلٌّ وصفيٌ مبكر للحصن يكتمل على أيدي رحّالة وباحثين أوروبيين، فقد أشاد السير أرشيبالد إدمونستون (1795–1871) بسعة البناء وقوة حضوره في صحراء الخارجة، ثم جرى أول وصفٍ لمجمّع المعبد اللِّبني الواقع شمال الحصن عام 1874 على يد الباحث الألماني يورغ شفاينفورت (1836–1925)، وهي إشارة مبكرة إلى وجود مكوّن ديني ملاصق للتحصين العسكري.

تابع أبو صديرة: مع اندلاع الحرب العالمية الأولى (1914–1918)، بلغ تأثير التحوّلات السياسية أطرافَ الصحراء؛ إذ استخدمت القوات البريطانية الحصن والمنطقة المحيطة به ضمن حملتها ضد السنوسيين، وخلّفت نقوشًا حديثة على الجدران تشهد على تلك المرحلة.

ويؤكد بهجت أبو صديرة، مدير آثار المحافظة الأسبق، أنه تُعدّ هذه النقوش وثائق ميدانية تُضيء الدور الاستراتيجي للمكان في مراقبة المسالك بين الواحات ووادي النيل خلال زمنٍ مضطرب.

وقال إنه في ثلاثينيات القرن الماضي، جرى تنفيذ أعمال مسح على يد عالم الآثار الألماني رودولف ناومان (1910–1996)، ومهّدت تلك الأعمال لبناء منهجية ميدانية لاحقة في قراءة العمارة الدفاعية والبيئة المحيطة بها، وربط المعبد الطيني القريب بوظائف الحصن وتحوّلاته.

لفت أبو صديرة، إلى أنه زادت المعلومات عن الموقع في أواخر التسعينيات؛ إذ جرى بين 1997 و2002 تنفيذ مسوحات وتنقيبات مشتركة لفريق “ألفا نيكروبوليس” والمعهد الفرنسي للآثار الشرقية، أظهر مسح 1997 ثلاث مناطق دفن إلى الجنوب والشمال والشرق من الحصن. وفي 1998، وخلال أعمال القطاع الجنوبي، جرى العثور على ثمانية مقابر منهوبة وتوابيت خشبية ورفات بشرية وأثاث جنائزي تقليدي.

لاحقًا، وفي المواسم المخصصة للشمال، جرى تسجيل 35 مقبرة و19 تابوتًا من الحجر الجيري الأبيض، احتوى بعضها على جثامين محنطة محفوظة جيّدًا في وضعية “أوزوريس” بأذرع متقاطعة فوق الصدر، وهو ما يربط المدافن بعاداتٍ جنائزية سادت بين القرنين الثالث والخامس الميلاديين.

وفي 2002، وتحت إشراف فرانسواز دوناند، جرى توثيق مدافن قبطية وأكفانٍ ملوّنة، إضافةً إلى مومياوات كلاب. يوضح محمد إبراهيم لـ”مصراوي”: تُقرأ مومياوات الكلاب كقرابين نذرية للمعبود أنوبيس، المعروف في أبيدوس وأسيوط، ويُرجّح انتقال هذا الطقس إلى الواحة عبر مسارات التجارة والقوافل، ما يكشف تداخُلًا دينيًا ثريًا بين معتقداتٍ مصرية قديمة وممارساتٍ مسيحية ناشئة.

بُني الحصن ككتلةٍ هندسية مقاتلة: سورٌ عريض، وأبراجٌ اثنا عشر تُؤمِّن الرؤية المتقاطعة، وحاجز علوي يُستخدم لدوريات المراقبة، وسلالم داخلية تقود إلى الممشى الدفاعي، في الداخل، وفّر البئر العميق مع القنوات الجوفية اكتفاءً مائيًا للحامية وحقولها، ما ضمن صمودًا خلال الحصار.

يقول مصدر أثري لـ”مصراوي”، هذه المنظومة المائية ليست تفصيلًا معماريًا فحسب؛ بل استراتيجية بقاءٍ في صحراء مفتوحة.

اليوم، يظهر حصن الدير شمال جبل أم الغنايم كأحد أبرز معالم منخفض الخارجة، على بُعد نحو 20 كيلومترًا شمال شرق معبد هيبس وقرابة 9 كيلومترات شرق قرية المنيرة.

ما زالت الجدران قائمةً بصلابة، بينما تُخبر نقوش الجنود البريطانيين عن فصلٍ حديث من السردية، ويعلّق بهجت أبو صديرة لـ”مصراوي”: المكان يقدّم طبقاتٍ متعاقبة من الدفاع والعبادة والمرور العسكري، وهذا التعدّد يمنح الخارجة موقعًا فريدًا على خريطة التراث.

قال منصور إبراهيم، خبير الآثار بالمحافظة، إنه بين تأسيسٍ روماني محكم، وتحوّلٍ رهباني موحٍ، وشهادات رحّالة وباحثين، ثم استعمالٍ عسكري حديث، وانتهاءً باكتشافاتٍ أثريةٍ أعادت تركيب المشهد؛ يظلّ حصن الدير شاهدًا على تفاعلٍ حضاري ممتدّ من وادي النيل إلى تخوم الصحراء، هنا، تتجاور هندسة الحصار مع طقوس الدفن، وتلتقي نقوش الجنود مع أكفانٍ قبطية وقرابين لأنوبيس؛ وكلّ ذلك يضع الواحة على خريطةٍ أوسع لقراءة مصر عبر أطرافها، ويجعل من حماية الموقع واستكمال دراسته أولويةً ثقافية وسياحية واقتصادية في آن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى