ألمانيا تقترب من هدف “أقوى جيش في أوروبا” بمشروع قانون جديد

تعزيز القدرات العسكرية الألمانية: نحو “أقوى جيش في أوروبا” في ظل التهديدات المتزايدة
في خطوة تاريخية تعكس تحولاً كبيراً في السياسة الأمنية الألمانية، تعهد المستشار الألماني أولاف شولتز ببناء أقوى جيش في أوروبا. يأتي هذا التعهد مدفوعاً بتصاعد التوترات الجيوسياسية، وعلى رأسها التهديد الروسي المتزايد، والتغيرات المحتملة في التزامات الولايات المتحدة تجاه حلف شمال الأطلسي (الناتو). وتهدف الحكومة الائتلافية الألمانية إلى ترجمة هذا الطموح إلى واقع ملموس من خلال مشروع قانون جديد يهدف إلى تعزيز القوات المسلحة الألمانية بشكل شامل.
مشروع القانون الجديد: أرقام وأهداف
تم الاتفاق على مشروع القانون الجديد قبل أيام، ويشكل نقطة تحول في مسار الجيش الألماني. أبرز ملامح هذا المشروع هي رفع عدد أفراد الجيش إلى 260 ألف جندي بحلول عام 2035، مقارنة بنحو 180 ألفاً حالياً. بالإضافة إلى ذلك، يهدف القانون إلى توفير قوة احتياطية قوامها 200 ألف جندي، مما يضمن قدرة ألمانيا على الاستجابة الفعالة لأي طارئ أمني.
هذه الزيادة الكبيرة تتطلب استثمارات ضخمة، وستترافق مع تحسينات ملحوظة في التدريب والتجهيز. ويُعد مشروع القانون خطوة جريئة نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال الأمن والدفاع، وتقليل الاعتماد على الحلفاء الآخرين.
التجنيد والحوافز المالية: استراتيجية متعددة الأوجه
في المرحلة الأولى من تنفيذ مشروع القانون، ستركز الحكومة الألمانية على التجنيد الطوعي. وستعمل على توفير حوافز أكبر للراغبين في الالتحاق بالجيش، بما في ذلك زيادة الرواتب بشكل ملحوظ. فقد تم تحديد راتب شهري ابتدائي قدره 2600 يورو (حوالي 3 آلاف دولار أمريكي)، بزيادة قدرها 450 يورو عن المستوى الحالي. هذه الزيادة تهدف إلى جذب الكفاءات الشابة وتشجيعهم على اختيار الخدمة العسكرية كمهنة.
الخدمة العسكرية الإلزامية ليست مطروحة بشكل كامل حالياً، ولكنها ستظل خياراً متاحاً للحكومة في حال عدم تحقيق أهداف التجنيد الطوعي. فإذا لم تتمكن ألمانيا من الوصول إلى العدد المطلوب من المجندين، فقد تلجأ إلى تطبيق نظام الاستدعاء الإلزامي عند الضرورة.
استبيان إلزامي وفحوصات طبية: إعداد الشباب للخدمة
بدءاً من العام المقبل، سيخضع جميع الشباب الألمان الذين يبلغون 18 عاماً لاستبيان حول رغبتهم في الخدمة العسكرية. هذا الاستبيان سيكون إجبارياً بالنسبة للذكور، ويهدف إلى جمع بيانات حول مدى استعداد الشباب للدفاع عن البلاد. كما سيتعين على الشباب الخضوع لفحوصات طبية إلزامية اعتباراً من عام 2027، لتقييم لياقتهم البدنية والعقلية للخدمة العسكرية. هذه الإجراءات تعتبر جزءاً من جهود أوسع نطاقاً لتهيئة الشباب الألمان للعب دور فعال في الدفاع عن البلاد.
دوافع التحول: من الحياد إلى الاستعداد
هذا التحول في السياسة الأمنية الألمانية لم يكن مفاجئاً. فقد حذرت إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب مراراً وتكراراً من ضرورة أن تتحمل أوروبا مسؤولية أمنها بشكل أكبر. كما أن استمرار الحرب الروسية في أوكرانيا، وتزايد التحذيرات من احتمال أن توجه موسكو هجوماً مستقبلياً ضد إحدى دول حلف الناتو، قد ساهم في تسريع وتيرة هذا التحول.
الجنرال الألماني كارستن بروير، المفتش العام للجيش الألماني، صرح في يونيو الماضي بأن روسيا لديها القدرة على شن هجوم محدود ضد أراضي دول الناتو في أي وقت، وأن الاستعداد لهذا الاحتمال أمر ضروري. هذا التحذير، بالإضافة إلى التغيرات في البيئة الأمنية العالمية، قد دفع الحكومة الألمانية إلى اتخاذ هذه الخطوات الجريئة.
الجدل السياسي حول مشروع القانون
على الرغم من الدعم الواسع الذي يحظى به مشروع القانون من قبل الحكومة، إلا أنه لا يزال محل جدل واسع في الأوساط السياسية الألمانية. فقد عارض اليسار الألماني بشدة عودة أي شكل من أشكال التجنيد الإلزامي، معتبراً أنها تمثل تراجعاً عن القيم السلمية التي لطالما تبنتها ألمانيا. وقد أظهر استطلاع للرأي أن 80% من ناخبي حزب اليسار يعارضون الفكرة.
الجيش الألماني كان يعتمد في السابق على نظام التجنيد الإلزامي، ولكن تم تعليقه في عام 2011 لصالح جيش يعتمد بالكامل على المتطوعين. الآن، تسعى الحكومة إلى إيجاد توازن بين الحاجة إلى تعزيز القدرات العسكرية، والحفاظ على القيم السلمية التي تميز المجتمع الألماني.
نحو نموذج أوروبي جديد؟
يرى وزير الدفاع الألماني بوريس بيستريوس أن النظام العسكري الجديد في ألمانيا قد يشكل نموذجاً يحتذى به من قبل الحلفاء الأوروبيين. وأشار إلى أنه على تواصل وثيق مع المسؤولين الفرنسيين والبريطانيين، وأنهم يراقبون عن كثب التطورات في ألمانيا.
قد يكون هذا النظام، الذي يجمع بين التجنيد الطوعي والحوافز المالية، والاستعداد لتطبيق التجنيد الإلزامي عند الضرورة، حلاً عملياً للعديد من الدول الأوروبية التي تواجه تحديات مماثلة في مجال الأمن والدفاع.
عقود من الإهمال والتحول التدريجي
من المهم الإشارة إلى أن القوات المسلحة الألمانية عانت من نقص مزمن في التمويل منذ نهاية الحرب الباردة. فقد ظل الإنفاق العسكري دون نسبة 2% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي النسبة المستهدفة من قبل حلف الناتو، لمدة طويلة. ولكن مع تولي أولاف شولتز منصبه، بدأت ألمانيا في تغيير نهجها، وزيادة الإنفاق الدفاعي بشكل ملحوظ.
في يونيو 2024، احتفلت ألمانيا لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية بيوم المحاربين القدامى، في خطوة رمزية تعكس اعترافها بأهمية القوات المسلحة ودورها في الحفاظ على الأمن والاستقرار. هذا التحول التدريجي يعكس إدراكاً متزايداً للحاجة إلى الاستعداد لمواجهة التحديات الأمنية المتزايدة في العالم.
الخلاصة:
إن تعهد ألمانيا ببناء أقوى جيش في أوروبا يمثل تحولاً تاريخياً في سياستها الأمنية. مشروع القانون الجديد، الذي يهدف إلى زيادة عدد أفراد الجيش وتوفير حوافز مالية، يمثل خطوة جريئة نحو تحقيق هذا الهدف. على الرغم من الجدل السياسي المحيط بالمشروع، إلا أنه يعكس إدراكاً متزايداً للحاجة إلى الاستعداد لمواجهة التهديدات الأمنية المتزايدة، وعلى رأسها التهديد الروسي. هل ستنجح ألمانيا في تحقيق طموحاتها، وهل ستتمكن من أن تلعب دوراً قيادياً في مجال الأمن والدفاع الأوروبي؟ هذا ما ستكشف عنه السنوات القادمة.












