محمود عبد السميع: كنت أول مصور سينمائي على الجبهة في حرب الاستنزاف

شهد المسرح المكشوف بدار الأوبرا المصرية، ضمن فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، محاضرة خاصة ومثيرة بعنوان “حرفية الصورة السينمائية: مع محمود عبد السميع”، والتي تأتي تكريمًا للمخرج السينمائي الكبير، الذي يكرمه المهرجان في حفل الختام. المحاضرة لم تكن مجرد حديث عن التقنيات، بل كانت رحلة عميقة في عالم الإبداع البصري، وكيف يمكن لمدير التصوير أن يحول السيناريو إلى واقع ملموس ينبض بالحياة. وقد حظيت المحاضرة بحضور كبير من المهتمين بالصناعة السينمائية، والذين تواقوا للاستماع إلى خبرات وتجارب أحد أبرز فناني التصوير في مصر.
بدايات الشغف والمسيرة المهنية
أدار اللقاء الناقد السينمائي القدير رامي المتولي، الذي وجه أسئلة ذكية ومحفزة لـ محمود عبد السميع، مما أتاح للجمهور فرصة التعرف على جوانب مختلفة من شخصيته وفنه. بدأت المحاضرة باستعادة ذكريات الطفولة، حيث عبّر عبد السميع عن حبه للسينما منذ الصغر، وكيف كان يحاول تقليد ما يراه على الشاشة، بل وقام بصنع كاميرا بدائية من الكرتون، ليؤكد أن الشغف هو المحرك الأساسي لكل إبداع.
تحدث عبد السميع عن تعامله الفريد مع عناصر المكان والزمان، مؤكدًا أنه يوليها نفس القدر من الاهتمام الذي يمنحه للممثلين، معتبرًا إياها جزءًا لا يتجزأ من الدراما. كما شدد على أهمية قراءة السيناريو بعمق، وتخيل الصورة قبل البدء في التصوير، مشيرًا إلى أن فهمه البصري العميق كان يسبق أحيانًا فهم المخرجين للمشهد، وهو ما قد يؤدي إلى عدم استمراره في بعض الأعمال، لكنه يرى في ذلك دليلًا على رؤيته الخاصة.
التعامل مع التحديات والإبداع في التصوير
لم تخلُ مسيرة محمود عبد السميع من التحديات، فقد روى قصة فيلم “التعويذة” للمخرج محمد شبل، وكيف واجه صعوبة في تجسيد مشهد دخول العفريت تحت السرير، نظرًا لمحدودية الإمكانيات التقنية في ذلك الوقت. إلا أنه لم يستسلم، بل ابتكر حلًا فنيًا باستخدام عدسة 905، ليقدم صورة مبتكرة ومؤثرة. هذا الموقف يوضح قدرة عبد السميع على تحويل الصعوبات إلى فرص للإبداع، واستخدام الخيال لإيجاد حلول غير تقليدية.
كما كشف عن تجربته في فيلم “للحب قصة أخيرة” للمخرج رأفت الميهي، حيث واجه مشكلة في ظهور أحد كشافات الإضاءة في الكادر. وللتغلب على هذه المشكلة، استخدم قطعة خشب سوداء يحركها شاب بالتزامن مع حركة الكاميرا، ليحول الكشاف إلى قمر صناعي يضيء المشهد بطريقة ساحرة. هذه الحيلة البسيطة، ولكنها فعالة، تعكس ذكاء عبد السميع وقدرته على الاستفادة من الموارد المتاحة.
حرب الاستنزاف والسينما الوثائقية
تطرق الحديث إلى تجربة فريدة ومؤثرة في حياة محمود عبد السميع، وهي تصويره لحرب الاستنزاف عام 1969. على الرغم من وجود ثغرة قانونية كانت تعفيه من الخدمة العسكرية، إلا أنه أصر على الذهاب لتصوير الحرب، واعتبر ذلك واجبًا وطنيًا. وقد واجه صعوبات جمة في الحصول على الكاميرا، حيث اضطر إلى استئجارها من زميل له.
وروى تفاصيل خطيرة خلال وجوده على الجبهة، حيث تعرض لقصف عنيف، وكاد أن يُقتل. ولكنه تمكن من أداء مهمته، وتقديم صور واقعية ومؤثرة تعكس بطولات الجنود المصريين. هذه التجربة أكدت له أن السينما ليست مجرد فن، بل هي أيضًا أداة للتعبير عن القضايا الوطنية والإنسانية. بالإضافة إلى ذلك، أكد عبد السميع على أهمية السينما الوثائقية في صقل مهاراته وتقديم رؤية واقعية للعالم.
حلم متحف السينما المصرية
اختتمت المحاضرة بالحديث عن حلم محمود عبد السميع القديم، وهو إنشاء متحف للسينما المصرية. وأوضح أنه بدأ العمل على هذا المشروع منذ عام 1990، وجمع العديد من الكاميرات والأدوات والمقتنيات الأخرى المتعلقة بالسينما المصرية. وقدم المشروع للعديد من المسؤولين، إلا أنه لم يتمكن حتى الآن من تحقيقه.
وأعرب عن أمله في أن يتمكن من رؤية هذا الحلم يتحقق في المستقبل القريب، وأن يصبح المتحف صرحًا ثقافيًا يضم كنوز السينما المصرية، ويساهم في الحفاظ على تاريخها للأجيال القادمة.
خاتمة: تكريم مسيرة الإبداع
إن تكريم مهرجان القاهرة السينمائي الدولي لـ محمود عبد السميع هو تقدير لمسيرة مهنية حافلة بالإبداع والتفاني في خدمة السينما المصرية. لقد قدم عبد السميع أعمالًا فنية تركت بصمة واضحة في ذاكرة السينما المصرية، وألهمت العديد من الفنانين والسينمائيين. المحاضرة كانت بمثابة درس في حرفية الصورة السينمائية، وكيف يمكن للإبداع أن يتغلب على الصعوبات، ويقدم أعمالًا فنية خالدة.
إن تجربة محمود عبد السميع تعلمنا أن السينما ليست مجرد تقنيات وكاميرات، بل هي فن يتطلب رؤية خاصة، وشغفًا لا ينتهي، وقدرة على الإبداع والابتكار.












