اخبار مصر

الطب مش تجارة.. 13 رسالة من جراح القلوب مجدي يعقوب في عيد ميلاده الـ90

نظَّمت الجامعة الأمريكية حوارًا مع الجراح المصري الدكتور مجدي يعقوب، احتفالًا بالذكرى التسعين لميلاده، أجراه صانع المحتوى “الدحيح” امتد قرابة ساعة بمقر الجامعة بالتحرير؛ بحضور مسؤولين سابقين وعشرات من المهتمين.

واستعرض الدكتور مجدي يعقوب، خلال تلك الساعة، مواقف من حياته المهنية والإنسانية وكذلك قدم نصائحًا للجيل الجديد، أبرزها التالي:

1- كان هناك أساتذة مذهلون حقًّا، وكان هناك أستاذ في الكيمياء الحيوية أثّر فينا كثيرًا عندما كنا ندرس في كلية الطب جامعة القاهرة؛ لأنه كان يدرّس الكيمياء الحيوية في وقت مبكر جدًّا، لكنه اختفى بعد ذلك إلى القرى ليدرس تأثير المرض على سكان القرى، وهذا ألهمنا أن نفكر في المجتمع، وألا نقتصر فقط على ما نتعلمه من الكتب وما شابه.

2- أحد أبرز الأساتذة في وقت دراستنا بقصر العيني كان شخصًا يُدعى أندريه، لأنه كان دائمًا يقوم بتجارب عملية ويكتب أبحاثًا، لكننا علمنا لاحقًا أن أندريه -وهو شخص أبيض- جاء إلى المملكة المتحدة وأصبح زميلًا في الجمعية الملكية، ثم تبع زوجته الإيطالية إلى مصر ودرّس لنا مادة الفسيولوجيا علم وظائف الأعضاء، ولماذا أروي هذه القصة؟ لأنك تجد اليوم في الكتب ما يُعرف بمشروعات أندريه Andre Projects، وهي التي علمتنا علم وظائف الأعضاء، وكيف يعمل القلب فعليًّا.. أمر مهم جدًّا.

3- كان الجميع يقول لي : “يجب أن تذهب إلى أمريكا وتخوض ما يسمّى برنامج الأبحاث الأمريكي، على أية حال، كنت أريد أن أعمل في البحث، فتقدّمتُ لوظيفة في جامعة شيكاغو، وتم تعييني هناك كعضو هيئة تدريس مبتدئ محاضر، ثم أستاذ مساعد، وقد استمتعت بتلك السنة إلى حدٍّ كبير، لكن قبل أن أحصل على هذا المنصب، كنت قد أجريت مقابلة في مستشفى إنجليزي وهو أحد المستشفيات خارج لندن قليلًا، قالوا لي: “لقد حصلت على الوظيفة، ولكن لا يمكنك الذهاب إلى شيكاغو، فقلت: “حقًّا؟ لكنني ذاهب إلى شيكاغو، فقالوا: حسنًا، اخرج قليلًا وانتظر ثم استدعوني بعد قليل، وقالوا: لقد حصلت على الوظيفة، وسنعيّن شخصًا آخر مكانك مؤقتًا، ثم تعود بعد سنة واحدة، فكان هناك نوع من الوعد أن أعود بعد عام واحد.

وعندما ذهبت إلى شيكاغو، استمتعت كثيرًا بعملي هناك، عملت مع الطلاب وكانوا رائعين أحبّوني وأحببتهم، أجريت الكثير من التجارب العلمية، وتعاونت مع زملاء كثيرين، ثم قالت لي جامعة شيكاغو: الآن يمكننا ترقيتك إلى وظيفة دائمة حيث يمكنك البقاء معنا إلى الأبد إن شئت، ويمكنك تحديد راتبك بنفسك من خلال المنح البحثية، وسنمنحك أي تمويل تحتاجه لأبحاثك، فقلت لنفسي: “لماذا لا أقبل هذا العرض؟، ولكنني في النهاية لم أقبل، لأسباب عديدة، رغم أنني كنت أستمتع بالعمل هناك، إلا أنني لم أحب النظام الأمريكي ولكن لم يعجبني أن عددًا كبيرًا من الناس خصوصًا من ذوي الأصول المكسيكية لم يكن لديهم أي رعاية طبية، شهدت مواقف جعلتني أقول: “هذا غير مقبول تمامًا” بينما في المملكة المتحدة، فإن نظام الخدمات الصحية الوطنية (NHS) نظام رائع بالفعل وهو في غاية الأهمية، لأن العلاقة بين الطبيب والمريض “علاقة مقدسة”، أفضل ما في الطب أن تكون هناك علاقة ثقة متبادلة بين الطبيب والمريض، فهي مهمة جدًّا للطرفين، المريض يستفيد، والطبيب أيضًا، لأن الطبيب يصبح مدافعًا عن المريض، والمريض يثق بطبيبه، هذه العلاقة لا وجود لها في الولايات المتحدة، ولست متأكدًا إن كانت موجودة الآن، لأنهم هناك ينظرون إلى الطب باعتباره سلعة تجارية، كأنهم يقولون: “أنا أشتري خدماتك كما أشتري شيئًا من السوبرماركت” لم يعجبني هذا على الإطلاق، وكان ذلك أحد الأسباب التي جعلتني أقرر العودة إلى بريطانيا.

4- هناك أسباب أخرى جعلتني أقرر العودة إلى بريطانيا وأترك أمريكا منها ما يتعلّق بعائلتي، كانت زوجتي كاتبة موسيقية وصحفية، وكانت تقول دائمًا: الموسيقى والثقافة في أوروبا أفضل بكثير، وكنت أردّ عليها قائلاً: لكن في شيكاغو لدينا أوركسترا شيكاغو السيمفونية، ولدينا أحد أفضل القادة الموسيقيين في العالم، فكانت تقول: “لا، لا، لا… أوروبا أفضل”، وكان هذا أيضًا أحد العوامل التي دفعتني للعودة، أما العامل الأخير، فهو أنني عندما عدت إلى زملائي في لندن وقلت لهم: لقد عُرضت عليّ كل هذه الفرص المذهلة في شيكاغو، قالوا لي: خذ العرض، وسنسامحك، قالوها بطريقة جعلتني أشعر بالتواضع الشديد وكأنهم ذكّروني أن الانتماء لا يُشترى، وأن العودة إلى الوطن أحيانًا أثمن من أي عرض آخر.

5- تعلمت عندما أصبحت أقود فريقي الطبي أن أبدأ كل عملية بقول: “هذه عملية سهلة وآمنة”، وعندما أجري العملية بنفسي، أركز كليًا على قلب المريض وأحيانًا لا أنام الليلة السابقة، خصوصًا إن كانت العملية جديدة، فأقوم بتصوّرها في ذهني، وعندما يأتي وقتها أقول للجميع: “هدوء تام، ركّزوا على العملية”.

6- لا أفكر في الطفل كمجرد طفل، بل أفكر في أننا يجب أن نكون في غاية الحرص لإنقاذ القلب لأنك كما قلت، إذا لم تعمل، فإن الحياة لا تستمر، وإذا لم تنجح العملية، أشعر بحزنٍ بالغ، ولكن الأهم من ذلك أنني دائمًا أنصح زملائي أن نذهب فورًا إلى أقارب المريض أو والديه ونقول لهم: “لقد بذلنا أقصى ما في وسعنا، وفعلنا كل ما يمكن، ولكن للأسف لم ينجح الأمر لا يوجد شيء مضمونه مئة في المئة”.

7- في إحدى المرات، تمت مقاضاتي، وذهبت إلى المحكمة العليا، وكان ذلك في مرحلة لاحقة من حياتي بعد أن نلت لقب “سير” وظهرت العناوين تقول: “السير مجدي يعقوب في المحكمة العليا”، وتعود الواقعة حيث جاءني والدا طفل، عمره بين ثلاثة وأربعة أشهر، وقالا إن طفلهما بحاجة إلى زراعة قلب في أسرع وقت، قلت لهما نعم، ولكنهم قالوا: سنأخذه إلى معالج طبيعي، طبيعي بمعنى العلاج بالأعشاب أو الطرق البديلة سيقوم بأشياء غريبة ويشفيه، فأخذوه، ثم عادوا والطفل أكثر مرضًا، ثم قالوا مرة أخرى إنهم سيأخذونه إلى ذلك المعالج الطبيعي، وفي النهاية، عادوا بعد أن بلغ الطفل عامًا واحدًا، وكان في حالة يرثى لها، قلت لهم حينها: الآن أصبحت العملية في غاية الخطورة، كنت قد قدّرت في البداية أن نسبة الوفاة 5 إلى 10% أي نجاح بنسبة 95%، وهو أمر جيد أما الآن، فقد ارتفعت إلى 50%، فقالوا لي: من فضلك أنقذه، حتى لو كانت النسبة 50%، فقلت: حسنًا، أصبح هناك قلب متاح في جنوب فرنسا، فسافر فريقي لجلبه عادةً ما كنت أذهب بنفسي، لكن هذه المرة بقيت بجانب الطفل، وأثناء ذلك، بدأ مستوى السكر في دم الطفل بالانخفاض، وتوقف قلبه، لم نستطع إنعاشه بشكل كافٍ، وبعد تسع دقائق وصلنا إلى آلة القلب والرئة الصناعية، ولكن هذه المدة كانت كافية لإحداث تلف في الدماغ، وعندما وصل القلب الجديد، تساءل الجميع: ماذا نفعل؟، قلت لهم: لنجرّب ضعوا القلب في صدر الطفل، قضينا ثمانين يومًا في غرفة العمليات نحاول إنعاش الطفل واستعاد قوته وتعافى، لكنه كان يعاني من تلف دماغي، طلب الوالدان المساعدة لأنهما من طبقة عاملة بسيطة، وقالا: نحتاج دعمًا في المنزل، فهو يمزّق كل شيء من حوله، وكان عمره وقتها 15 عامًا، لكن المستشفى خلافًا لنصيحتي رفض مساعدتهما قائلا: إذا فعلنا ذلك، سيقول الناس إن المستشفى هو المسؤول، فقام المحامون برفع دعوى قضائية ضد المستشفى وضدي أيضًا. وذهبنا إلى المحكمة، أروي هذه القصة لأنني خلال المحاكمة لم أجرؤ على القول إن الخطأ كان من الوالدين، بل قلت: لقد حاولنا جاهدين، والوالدان كذلك، لأننا نحن أيضًا لدينا أطفال، ونعرف أنه لا يجوز أن نجعل الوالدين يشعران بالذنب.

لكن الدرس الذي تعلمناه من هذه القصة هو أنه لا يجب على الوالدين أن يذهبا إلى أشخاص يدّعون أنهم “معالجون طبيعيون” ويعدونهما بالمعجزات دون أي خبرة أو علم، مثل هذه الأمور تحدث حتى مع مرضى السرطان، وهذا أمر محزن للغاية.

8- أنا مفتون تمامًا بوظائف القلب وآلية الشفط فيه، كنت أقرأ كتاب تشريح غراي (Grey’s Anatomy) وهو كتاب ضخم جدًا من أوله إلى آخره، ثم أعود إليه من جديد بشغف، في كل مرة كنت أكتشف شيئًا مذهلًا حول هذا الموضوع، ليس فقط عن القلب، بل عن نظام الشفط في الجسم بأكمله، فهو أشبه بالمعجزة، لذلك كنت شديد الاهتمام بالتعلّم طوال الوقت.

9- الأمر كله يتمحور حول التدريب، وتدريب الكوادر المحلية لسبب بسيط جدًا يُسمّى الاستدامة، فليس هناك “جيد” أو “سيئ” في هذا السياق، لكن ما أدركناه هو أن العمل لا يكتمل إذا لم يكن مستدامًا، كنتُ في الماضي أذهب لإجراء عمليات جراحية في إفريقيا أو أمريكا الوسطى، مع بعض زملائي، وكنا نغادر بعد أن نتأكد أن جميع المرضى في حالة جيدة، لكن بعد فترة قصيرة، ثلاثة أرباعهم يموتون، لأنه لا توجد استمرارية للرعاية، ومن هنا تعلّمنا الدرس الحقيقي: أن الاستدامة تعني تدريب الناس، والناس هنا لا نقصد بهم الأطباء فقط بل أيضًا الممرضين، والعلماء، والمهندسين.

10- إن مفهوم المركز المتكامل متعدد التخصصات بدأناه منذ وقت طويل، والآن أصبح الجميع يؤمن به، كنت دائمًا أُلقي محاضرات تحت عنوان: “عالم واحد، وأصوات متعددة”، حتى داخل المركز نفسه علينا أن نتفق ونعمل كعائلة واحدة، لأن هذا هو ما يجعل العمل ناجحًا ومستمرًا، وطبقنا هذا المفهوم على سبيل المثال في مركز أسوان للقلب (Sonoma Center) وحقق نجاحًا كبيرًا، نحن هناك عائلة واحدة بالفعل والتدريب والاستدامة هما أساس النجاح الحقيقي.

11- سواء أكان الأمر لأسبوع، أم عشرة أيام، أم حتى شهر فأنا أستمتع بإلقاء المحاضرات في جميع أنحاء العالم، وأستمتع أكثر بالجلوس مع زملائي لساعات طويلة، نناقش خلالها ما ينبغي فعله مع المرضى، ما زلت أذهب إلى غرفة العمليات، لكن ليس لأجري الجراحة بنفسي، بل لأقدّم المشورة حول الخطوة التالية.

12- آخر عملية أجريتها بنفسي، في المرة الأخيرة، كنت أقف على الجانب الآخر من الطاولة، أساعد زميلي الشاب أثناء إجرائه للعملية، ولدهشتي الكبيرة، أصبحوا يؤدون العملية في النهاية أفضل مما كنت أفعلها أنا فأقول في نفسي: “رائع، رائع”، لماذا أقول ذلك؟ لأنهم رغم تفوقهم، ما زالوا يدعونني لأدخل معهم وأشاركهم المشورة، وما زلنا نتجادل ونتحاور حول القرار التالي ماذا نفعل بعد ذلك؟ لذلك ما زلت أستمتع بالجانب السريري، والجراحي، واتخاذ القرارات، وهو في رأيي أكثر أهمية حتى من إجراء الجراحة نفسها.

13- البحث العلمي جزء لا يتجزأ من حياتي اليومية، في مركز أسوان للقلب، نُنتج سنويًّا ما يقارب 100 بحث علمي محكّم في مجلات دولية مرموقة، نحن نؤمن أن إنتاج المعرفة الجديدة أمر بالغ الأهمية للعالم، لأننا في الحقيقة نفقد الكثير من المعرفة التي أنتجتها الأجيال السابقة، ومن واجبنا أن نُنتج معرفة جديدة لأبنائنا وأحفادنا في المستقبل لذلك، البحث العلمي يمثل جزءًا أساسيًّا من روتيني اليومي.

اقرأ أيضًا:

اقتربت أيام المغفرة.. تعرف على موعد شهر رمضان 2026

رقم قياسي وشهادات ISO.. المتحف المصري الكبير تقنيات ذكية وتشغيل مستدام

أجواء خريفية وسحب منخفضة وشبورة.. الأرصاد تعلن طقس الـ6 أيام المقبلة

وزير الري: حان الوقت لمواجهة التعديات على أراضي النيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى