الحرب والناس.. الشعب في قلب المعادلة
جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
“لقد ظلت جماهير هذا الشعب هي دائمًا أمضى أسلحة الكفاح وأعظمها فاعلية، وأكثرها حسمًا لنتائج الصراع. ولهذا فقد ارتبط نجاح شعبنا على جبهته الخارجية بقدر ما توفرت له من قوة واستقرار على جبهته الداخلية السياسية والاقتصادية والعسكرية، فالعمل الخارجي لا يمكن أن يحقق الكثير ما لم يستند إلى قاعدة داخلية وطيدة وآمنة”.
بهذه الكلمات التي تضع الشعب المصري في قلب المعادلة الوطنية، وتكشف عن عظمته ودوره التاريخي في الحفاظ على مقدرات الوطن، والوقوف خلف قيادته الوطنية في مواجهة التحديات والمخاطر والأزمات الكبرى، اختتم الراحل محمد حافظ إسماعيل مستشار الأمن القومي في زمن الرئيس السادات وأثناء حرب أكتوبر، مقدمة كتابه المهم “أمن مصر القومي في عصر التحديات” الذي نشر للمرة الأولى عام 1987.
وهذه الحقيقة التاريخية التي ذكرها حافظ إسماعيل عن عظمة الشعب المصري، وعن أهمية وحدة وتماسك الجبهة الداخلية في دعم الجنود على الجبهة أثناء الحرب، ودعم مواقف وخيارات السلطة ومؤسسات الدولة أثناء الحرب، ظهرت على أوضح ما يكون في الفيلم الوثائقي “الحرب والناس” الذي عرضته القناة الوثائقية المصرية التابعة للشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، في شهر أكتوبر الجاري بمناسبة الاحتفال بالذكرى الثانية والخمسين لحرب أكتوبر المجيدة، من أجل تنشيط الذاكرة الوطنية، واستدعاء روح أكتوبر، وإظهار عظمة تلك الأيام ورجالها.
من خلال الجانب الوثائقي في الفيلم وعبر عرض وجهات نظر ضيوفه من المؤرخين والأدباء والفنانين والمثقفين المصريين، وضيوفه من الضباط والجنود الأبطال الذين شاركوا في حرب الاستنزاف وحرب السادس من أكتوبر، عرفنا تفاصيل كثيرة عن تلك الأيام المجيدة في تاريخ الوطن والأمة، وكيف رفض المصريون جميعًا الهزيمة والاستسلام لليأس، وأفشلوا مخططات أعداء الوطن في الداخل والخارج، عندما تمسكوا بقيادتهم الوطنية، وشرعوا في الأيام اللاحقة على هزيمة يونيو 1967 مباشرة في الاستعداد للثأر والبدء في إعادة بناء الجيش، رافعين الشعار الذي نادى به الرئيس جمال عبد الناصر عندما قال: “مبدأ أساسي أؤمن به، ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة”.
كما أظهر الفيلم الوثائقي “الحرب والناس” دور الفن المصري والنخبة المصرية الوطنية المثقفة في شحذ همة وإرادة المصريين بعد هزيمة يونيو، والتأكيد على أن النصر والهزيمة في المعارك عوارض عابرة في تاريخ الأمم، وما يجب الحرص عليه هو توافر شجاعة مواجهة هذه المحنة، وتوافر الإرادة الوطنية الراغبة في إعادة البناء ورفض الهزيمة، والتمسك بإرادة المقاومة والثأر حتى النصر.
وفي حقيقة الأمر، فقد كان لأهل الفن والأدب والثقافة دور عظيم في تلك الأيام، في إنقاذ أرواح المصريين من السقوط في ظلمات اليأس، والمساعدة في تجاوز مرارة الهزيمة واستعادة الحياة الطبيعية، والتبشير بالنصر، ودعم المجهود الحربي، من خلال بعض الأعمال الفنية مثل موال “عدى النهار” الذي كتبه بعد النكسة عبد الرحمن الأبنودي، ولحنه بليغ حمدي، وتغنى به عبد الحليم حافظ ليحول مشاعر الهزيمة إلى طاقة عمل وبناء وإصرار على النصر. وظهر أيضًا في كلمات وأشعار مسحراتي الوطن العظيم فؤاد حداد، الذي كتب بعد النكسة مباشرة أغنيته الشهيرة “الأرض بتتكلم عربي” التي جاءت كنبوءة مبكرة بانتصار أكتوبر 1973.
كما ظهر هذا الدور على أوضح ما يكون في أغنيات الفرقة الموسيقية “أولاد الأرض”، التي تأسست في مدينة السويس بعد نكسة 1967، وتكونت من شباب العمال وصغار الحرفيين، تحت قيادة الكابتن غزالي، بهدف رفع الروح المعنوية للجنود والشعب خلال حرب الاستنزاف. ومن أشهر أغنياتها في هذا الصدد أغنية “فات الكتير يا بلدنا مابقاش إلا القليل”.
وأبرز الفيلم الوثائقي الدور الذي قام به الأزهر والكنيسة والفنانون والأدباء والمثقفون والرياضيون في دعم المجهود الحربي، وتقوية الروح الوطنية، تحت شعار “الفن في المعركة”، وشعار “الثقافة في المعركة”، وقيامهم بتنظيم فعاليات تخصص إيراداتها لإعادة بناء الجيش، إلى جانب قيامهم بزيارات متعددة للجبهة أثناء حرب الاستنزاف، لدعم الجنود، ورفع روحهم المعنوية، وإظهار تقدير الشعب بكل مكوناته لجهودهم وتضحياتهم وبطولاتهم.
ولم يكتف صناع الفيلم بهذا، بل عرضوا أيضًا لبعض بطولات وتضحيات الجنود المصريين أثناء حرب الاستنزاف، خاصة معركة رأس العش، وتدمير المدمرة إيلات، وتدمير السفينتين الحربيتين الإسرائيليتين “بيت شيفع” و”بات يم” في فبراير عام 1970، وملابسات استشهاد الفريق عبد المنعم رياض يوم 9 مارس 1969 بين جنوده وضباطه على الجبهة المتقدمة، وتفاصيل جنازته الشعبية التي جسدت تعبيرًا عبقريًا عن تلاحم الشعب مع قيادات الدولة والجيش، وعن رغبتهم جميعًا في الثأر لهزيمة يونيو 67، ولدم الشهيد عبد المنعم رياض.
لكن أبرز ما يجب علينا التوقف عنده وتأمله في وثائقي “الحرب والناس” هو إبرازه أهمية الشعب في قلب المعادلة الوطنية، وأهمية وحدة وقوة الجبهة الداخلية، وأهمية توافق دوافع وغايات وإرادة الشعب والسلطة ومؤسسات الدولة، وأهمية دور الشعب المصري وتضحياته في تجاوز هزيمة 5 يونيو 1967، وصنع نصر أكتوبر 1973، الذي جاء نتيجة لسنوات من التخطيط الواعي والتضحية والصبر بعد إدراك الشعب والسلطة ومؤسسات الدولة أن المعركة القادمة، وكل معركة مصيرية في تاريخ الوطن، هي معركة الشعب بأكمله وبكل فئاته وقطاعاته، وليست معركة السلطة والجيش والجنود فقط.












