“الجمالان”.. العقل والقلب في معادلة مصر

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
مصر – تلك الكلمة التي إذا نُطِقت ارتجف المعنى، وانبعثت من باطنها أصداء التاريخ والقدر معًا – لم تكن في يومٍ من الأيام جغرافيا فحسب، بل كانت عقلًا يفكّر وروحًا تحلم. ولأنها بهذا العمق والتنوّع، فقد كان لا بد أن يجتمع عندها رجلان على اختلاف الطريق واتحاد الغاية..جمال حمدان وجمال الغيطاني.
اثنان يجمعهما الاسم ويفرّقهما المنهج، أحدهما يقبض على الأرض بعين الفيلسوف، والآخر يعانقها بخيال الأديب، لكنهما في النهاية يلتقيان عند نقطةٍ واحدة هي جوهر مصر.
كان جمال حمدان – في عمق فكره – كالعين التي ترى ما لا يُرى. لم يكن يدرس الجغرافيا كما تُدرّس في الجامعات، بل كما تُتلى الصلوات في المعابد. عنده كانت الجغرافيا وحيًا ومعرفةً تنبع من أصل الروح، يقرأ فيها التاريخ قدر الأمم. لم تكن مصر لديه رقعةً من الطين والأنهار، بل فكرة كونية تمشي على ضفاف النيل.
كان يرى أن مصر قدرها أن تكون مركزًا، لا طرفًا؛ روحها أقدم من دولتها، وتاريخها أطول من حدودها.
في كتبه، لا تلتقي الجغرافيا بالخرائط بقدر ما تتشابك مع الفلسفة. تقرأه فتشعر أنك أمام مفكرٍ يقيس المسافة بين الجبل والإنسان، بين النيل والضمير، بين الصحراء والروح. كان يرى في كل وادٍ آية، وفي كل قرية فكرة، وفي كل نهرٍ تاريخًا. عاش راهبًا للفكر، يكتب بعزلة الأنبياء، ويصمت كما يصمت البحر حين يفيض بالمعاني.
أما جمال الغيطاني، فكان الوجه الآخر للمعادلة. إذا كان حمدان عقل مصر المفكر، فإن الغيطاني وجدانها السارد. خرج من الأزقة القديمة في القاهرة كما تخرج الأسطورة من رحم الحكاية. كان يعرف أن التاريخ لا يُكتَب في الكتب وحدها، بل في الحواري، في الأصوات، في الوجوه. كان يرى أن الحارة المصرية هي المخطوط الحقيقي الذي كتب عليه المصريون سرّ وجودهم.
في رواياته – من «الزيني بركات» إلى «التجليات» – تحوّلت القاهرة إلى كونٍ رمزيٍّ كامل. نسمع فيها همس الأزمنة، ونشمّ فيها رائحة الحجر الذي حفظ الذاكرة. لغته نسيج من العشق والتاريخ، تفيض بالشجن، متوترة بالإيمان بأن مصر ليست فقط ما كان، بل ما سيكون.
كتب الغيطاني بروح المؤرخ الذي عشق وطنه إلى درجة العرفان، فصار يسرد لا من أجل الفن وحده، بل من أجل الخلود. كانت رواياته صلاة أدبية لمصر، يتقاطع فيها الحلم بالقدر كما يتقاطع في معابد الأقصر الضوء بالظل.
الفرق بين الاثنين، هو الفرق بين من يرى بعين العقل ومن يرى بعين القلب.
جمال حمدان يمسك بخيوط الوعي العلمي، يحلل مصر كمعادلة كونية، يزنها بموازين المكان والزمان. يرى أن جغرافيتها ليست مجرد تضاريس، بل هندسة قدر، وأن موقعها بين القارات هو شاهدها الأبدي على دورها في التاريخ.
أما جمال الغيطاني، فكان يكتبها بالوجدان، يسكبها في اللغة كما يُسكب الضوء على الحجر. يرى في مصر كائنًا حيًّا يتنفّس في الذاكرة، يحزن ويفرح ويصلي ويقاوم.
حمدان يحدّق من علٍ في الخريطة ليكشف سرّ الرسوخ، والغيطاني يغوص من تحتها ليصغي إلى نبض الناس. الأول يقدّس المكان، والثاني يؤنسن الزمان. وبينهما تنعقد معادلة مصر الحقيقية: العقل الذي يعرف والروح التي تؤمن.
حمدان قدّس الفكرة حتى صار فيلسوف الجغرافيا، والغيطاني قدّس الوجدان حتى صار مؤرخ الحلم. كلاهما عاش زاهدًا، منعزلًا في طريقه، لا يطلب مجدًا شخصيًا، بل يطلب بقاء مصر في الكلمة والفكر معًا.
ولئن اختلفا في الأدوات، فإنهما اتحدا في الرسالة: أن مصر ليست وطنًا يُوصف، بل وطن يُفهم ويُحب.
عند حمدان، تُفهم بالعقل؛ وعند الغيطاني، تُحب بالقلب.
عند الأول، هي معادلة تصنعها الجغرافيا؛ وعند الثاني، حكاية تصوغها الذاكرة.
الأول قرأها في خطوط الأرض، والثاني سمعها في أنين التاريخ.
وفي النهاية، حين يلتقيان على ضفة النيل – عقل الأول وروح الثاني – تتجلّى مصر الكاملة: تلك التي توازن بين الفكرة والعاطفة، بين الحجر والإنسان، بين الخريطة والحكاية.
هناك، في المسافة بين فكر حمدان وقلب الغيطاني، تسكن مصر الحقيقية؛ مصر التي لا تُرسم ولا تُروى، بل تُعاش.
هكذا يلتقي «الجمالان» – فيلسوف الجغرافيا ومؤرخ الوجدان – في حبٍّ واحدٍ خالدٍ اسمه مصر.












