اخر الاخبار

محاولات أوروبية للخروج من “ظل” الولايات المتحدة.. والأنظار نحو “ميركوسور”

في أعقاب التصريحات النارية للرئيس الأمريكي دونالد ترمب والتي انتقد فيها أوروبا وقادتها، يشهد الاتحاد الأوروبي تحولاً ملحوظاً نحو تعزيز استقلاليته وتقليل اعتماده على الولايات المتحدة. هذا التحول يتجلى في مساعي جادة لتنويع علاقاته الاقتصادية والعسكرية والسياسية، مع التركيز بشكل خاص على تعزيز الشراكة مع أمريكا اللاتينية، وتحديداً السوق المشتركة لدول أميركا الجنوبية (ميركوسور). هذا التوجه يهدف إلى إظهار قوة جيوسياسية أوروبية مستقلة في عالم يشهد منافسة متزايدة بين القوى الكبرى.

هجوم ترمب يوقظ الاتحاد الأوروبي

وصف الرئيس ترمب، في مقابلة حديثة مع مجلة “بوليتيكو”، دول القارة الأوروبية بأنها “متداعية” وقادتها بأنهم “ضعفاء”، كما أطلق استراتيجية أمن قومي جديدة تدعو إلى “تعزيز المقاومة” داخل القارة. هذه التصريحات لم تكن مفاجئة، لكنها جاءت في توقيت حساس، وأثارت صدمة واسعة داخل المفوضية الأوروبية، وأدت إلى خلافات حول كيفية الرد. رد رئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا على هذه الانتقادات، مطالباً الولايات المتحدة بالتصرف كحليف، ومؤكداً على ضرورة “إظهار الاحترام”.

اتفاقية ميركوسور: فرصة لتقليل الاعتماد على أمريكا

أثارت انتقادات ترمب إدراكاً متزايداً داخل الاتحاد الأوروبي بأن إحراز تقدم في اتفاق التجارة “المتعثر” مع السوق المشتركة لدول أميركا الجنوبية (ميركوسور) يمثل أفضل وسيلة لإظهار ثقلها الجيوسياسي. في ظل التنافس الشديد بين الصين والولايات المتحدة على استقطاب هذه المنطقة، يرى قادة الاتحاد الأوروبي أن إتمام هذه الاتفاقية يمثل خطوة استراتيجية نحو تحقيق الاستقلالية الاقتصادية. ومع ذلك، لا يزال هذا المسار محفوفاً بالتحديات، حيث تعارض فرنسا ودول أخرى إتمام الاتفاقية.

معارضة فرنسية راسخة

تتمسك فرنسا برفضها لاتفاقية ميركوسور، مدفوعة بمخاوف من أن يؤدي تدفق المنتجات الزراعية الأرخص من أمريكا اللاتينية إلى الإضرار بمزارعيها. هذه المعارضة الراسخة تمثل عقبة كبيرة أمام إتمام الاتفاقية، وتثير تساؤلات حول مدى استعداد باريس لدعم طموحات أوروبا في تحقيق “السيادة الأوروبية” بأفعال ملموسة. ويرى مؤيدو الاتفاقية أنها تمثل اختباراً حقيقياً لمدى جدية فرنسا في دعم الاستقلالية الاستراتيجية لأوروبا.

تعزيز التعاون الدفاعي: خطوات مترددة

لا يقتصر الأمر على الجانب الاقتصادي، بل يمتد إلى المجال العسكري. فالمخاوف المتزايدة بشأن عدم القدرة على التنبؤ بالتصرفات الأمريكية، وحجم العدوان الروسي، تدفع الدول الأوروبية إلى تولي مسؤولية أمنها بنفسها. تضغط المفوضية الأوروبية على الدول الأعضاء للانضمام إلى ما يُعرف بـ”المشروعات الدفاعية الرائدة”، وتجميع الموارد في مجالات رئيسية مثل الطائرات المُسيرة وأنظمة مكافحة المُسيرات.

خلافات حول المشروعات الدفاعية

لكن قوى رئيسية في الاتحاد الأوروبي، مثل فرنسا وألمانيا، أبدت تشككها في هذه المقترحات، خشية أن تُضعف هذه الخطوات أولوياتها الوطنية، وتمنح بروكسل نفوذاً مفرطاً على سياسة الدفاع. هذا التردد يعكس الانقسامات الداخلية داخل الاتحاد الأوروبي حول كيفية تحقيق الاستقلالية الدفاعية، ويؤكد على الحاجة إلى توافق أكبر حول هذه القضية الحساسة. التعاون الدفاعي يمثل تحدياً كبيراً للاتحاد الأوروبي.

أزمة الأصول الروسية: دليل على صعوبة الاعتماد على الذات

الخلاف بشأن استخدام الأصول الروسية المجمدة، لتوفير قرض تعويضي بقيمة 210 مليار يورو لتمويل أوكرانيا، يبرز الصعوبة التي تواجه الاتحاد الأوروبي في الاعتماد على نفسه. هذا الخلاف يعكس الانقسامات العميقة بين الدول الأعضاء حول كيفية التعامل مع روسيا، ويؤكد على الحاجة إلى وحدة أكبر في مواجهة التحديات الخارجية. الاستقلالية الأوروبية ليست مجرد شعار، بل هي عملية معقدة تتطلب تضحيات وتنازلات من جميع الأطراف.

مستقبل العلاقات بين أوروبا وأمريكا

في الختام، يمكن القول إن هجوم الرئيس ترمب على الاتحاد الأوروبي قد أثار نقاشاً ضرورياً حول مستقبل العلاقات بين الجانبين، ودفع الاتحاد الأوروبي إلى إعادة تقييم استراتيجيته، والتركيز بشكل أكبر على تحقيق الاستقلالية في مختلف المجالات. اتفاقية ميركوسور، والتعاون الدفاعي، واستخدام الأصول الروسية، كلها قضايا حاسمة ستحدد مسار هذا التحول. الاتحاد الأوروبي يواجه تحديات كبيرة، لكنه يمتلك أيضاً الإمكانات اللازمة لتحقيق الاستقلالية والازدهار في عالم متغير. هل ستنجح أوروبا في اغتنام هذه الفرصة التاريخية؟ هذا ما ستكشفه الأيام القادمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى