ماكرون يزور الصين وسط مساعٍ أوروبية لموازنة المخاطر الاقتصادية والأمنية

يسافر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الصين هذا الأربعاء في زيارة رسمية هامة، وهي الرابعة له، في وقت تسعى فيه أوروبا جاهدة لتحقيق توازن دقيق بين الفرص الاقتصادية التي تقدمها بكين والمخاطر الأمنية المتزايدة. تأتي هذه الزيارة في ظل اضطرابات تجارية عالمية متصاعدة، وتضع على عاتق ماكرون مهمة صعبة تتمثل في الدفاع عن مصالح أوروبا مع الحفاظ على علاقات دبلوماسية بناءة مع ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
زيارة ماكرون إلى الصين: رسالة توازن معقدة
يُدرك المحللون أن الرئيس ماكرون يسعى باستمرار إلى تقديم جبهة أوروبية موحدة في التعامل مع الصين، مع إدراك كامل للحساسيات السياسية والاقتصادية لبكين. فالهدف ليس الاستفزاز، بل إيصال رسالة واضحة حول حدود التسامح الأوروبي مع الممارسات التجارية غير العادلة والتهديدات الأمنية المحتملة. كما صرح نواه باركين، المحلل المتخصص في الشأن الصيني لدى “مجموعة روديوم” لوكالة “رويترز”: “يتعيّن عليه (ماكرون) أن يوضح لقيادة الصين أن أوروبا سترد على التهديدات الاقتصادية والأمنية المتزايدة من جانب بكين، مع تجنّب تصعيد التوتر إلى حد اندلاع حرب تجارية شاملة وانهيار دبلوماسي”. إن تحقيق هذا التوازن الدقيق يمثل تحديًا كبيرًا، ويتطلب مهارة دبلوماسية عالية.
جدول أعمال الزيارة: لقاءات قمة ومناقشات حاسمة
ستبدأ زيارة الرئيس الفرنسي بجولة في قصر المدينة المحرمة في بكين، وهو رمز تاريخي وثقافي للصين. ثم سيعقد اجتماعًا قمة مع الرئيس الصيني شي جين بينج يوم الخميس في العاصمة، وسيتجدد اللقاء بينهما مرة أخرى يوم الجمعة في مدينة تشنجدو، إقليم سيتشوان في جنوب غرب البلاد. هذه اللقاءات المتتالية تؤكد على أهمية هذه الزيارة في سياق العلاقات الثنائية بين فرنسا والصين، والعلاقات الأوسع بين أوروبا والصين.
قضايا التجارة والاستثمار في صميم المحادثات
تأتي هذه الزيارة بعد زيارة لرئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين في يوليو، والتي اتسمت بالتوتر بسبب تصريحاتها حول أن العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والصين تمر بـ”نقطة انعطاف”. وتتصاعد التوترات التجارية بين الصين وأوروبا بسبب تدفق الصادرات الصينية الرخيصة، خاصة في قطاع الصلب، مما يهدد الصناعات الأوروبية. بالإضافة إلى ذلك، هناك قلق متزايد بشأن التفوق التكنولوجي الصيني في قطاع السيارات الكهربائية وهيمنتها على معالجة العناصر الأرضية النادرة، وهي مواد حيوية للعديد من الصناعات الأوروبية.
أوروبا تسعى إلى إعادة التوازن في العلاقات التجارية
مع تزايد الضغوط على التجارة العالمية، تحاول بكين استغلال الفرصة لتقديم نفسها كشريك تجاري موثوق به، بهدف تهدئة المخاوف الأوروبية بشأن دعمها لروسيا ونموذجها الصناعي المدعوم من الدولة. ويخطط ماكرون للضغط من أجل إعادة التوازن لديناميكيات التجارة، وتشجيع الصين على تعزيز الاستهلاك المحلي. كما يأمل في “تقاسم المكاسب من الابتكار”، مما يتيح لأوروبا الوصول إلى التكنولوجيا الصينية المتقدمة. زيارة ماكرون إلى الصين تمثل فرصة لفتح قنوات جديدة للحوار والتعاون في هذه المجالات الحيوية.
آلية الأمن الاقتصادي الأوروبي: أداة جديدة لمواجهة التحديات
في محاولة للتصدي للقلق المتزايد بشأن التجارة مع الصين، من المتوقع أن يكشف الاتحاد الأوروبي عن آلية جديدة للأمن الاقتصادي. ستتيح هذه الآلية استخدام الأدوات التجارية بشكل أكثر تشدداً في مواجهة الممارسات التجارية الصينية غير العادلة. وقد دعمت فرنسا بالفعل مسعى المفوضية الأوروبية لرفع الرسوم الجمركية على واردات السيارات الكهربائية من الصين، مما يعكس تصميمها على حماية الصناعات الأوروبية.
تأثير القيود الصينية على سلاسل التوريد الأوروبية
تؤثر القيود التي تفرضها الصين على التصدير بشكل مباشر على الشركات الأوروبية، مما يجبرها على إعادة التفكير في سلاسل التوريد الخاصة بها. وكشف استطلاع حديث أجرته غرفة تجارة الاتحاد الأوروبي في الصين أن هذه القيود قد تكلف الشركات أكثر من 250 مليون يورو. ونحو ثلث الشركات الأوروبية العاملة في الصين تخطط لتحويل سلاسل التوريد بعيداً عن الصين نتيجة لهذه السياسات. هذا التحول يعكس مدى هشاشة الشركات الأوروبية أمام الاضطرابات في تدفق المواد الخام والتكنولوجيا من الصين. العلاقات الاقتصادية بين أوروبا والصين تمر بمرحلة حساسة تتطلب حوارًا بناءً وإيجاد حلول مستدامة.
مستقبل التعاون في قطاع الطيران
على الرغم من افتتاح شركة “إيرباص” مؤخرًا خط تجميع جديدًا في الصين، فمن غير المرجح أن تتمكن من إبرام طلبية منتظرة منذ فترة طويلة تصل إلى 500 طائرة خلال زيارة ماكرون. هذا يعكس التحديات التي تواجه الشركات الأوروبية في الحصول على صفقات كبيرة في الصين، ويمنح بكين نفوذاً في مواجهة واشنطن، التي تضغط من أجل التزامات جديدة لشراء طائرات من شركة “بوينج”. التجارة بين الصين وأوروبا تتأثر بالعديد من العوامل الجيوسياسية والاقتصادية.
في الختام، تمثل زيارة ماكرون إلى الصين فرصة حاسمة لإعادة تعريف العلاقات بين أوروبا والصين في ظل التحديات العالمية المتزايدة. يتطلب الأمر دبلوماسية حكيمة ورؤية استراتيجية لتحقيق توازن بين المصالح الاقتصادية والأمنية، وضمان مستقبل مستدام للتعاون بين الجانبين. من الضروري متابعة نتائج هذه الزيارة وتقييم تأثيرها على العلاقات الأوروبية الصينية على المدى الطويل.












