اخر الاخبار

“قوة التجنيد”.. سلاح روسيا الاستراتيجي في حرب أوكرانيا ومفاوضات السلام

أصبحت قوة التجنيد سلاحاً فعالاً لصالح روسيا، يمكنها من مواصلة الحرب في أوكرانيا، الأمر الذي أثار اهتمام الغرب لمتابعته عن كثب وفهم أسباب الموقف القوي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. فالحرب التي بدأت في 2022 لم تعد مجرد صراع عسكري، بل تحولت إلى سوق عمل غير تقليدية، تستغل فيها موسكو هشاشة بعض شرائح المجتمع لتعزيز قوتها البشرية. هذا التحول يثير قلقاً متزايداً في الغرب، مع مخاوف بشأن طول أمد الصراع وإمكانية تصعيده.

تحول الحرب في أوكرانيا إلى سوق للوظائف في روسيا

مجلة “بوليتيكو” الأمريكية سلطت الضوء على هذه الظاهرة، مشيرة إلى أن الإعلانات المنتشرة على تطبيق “تليجرام” تعرض عقوداً للقتال بمكافآت توقيع تصل إلى 50 ألف دولار. هذا المبلغ الضخم، الذي يفوق بكثير متوسط الرواتب الشهرية الذي لا يتجاوز ألف دولار، يعتبر مغرياً للغاية للعديد من الروسيين الذين يعانون من صعوبات اقتصادية. إلى جانب المكافآت المالية، تقدم روسيا حوافز أخرى مثل إعفاء من الديون، ورعاية مجانية لأطفال وعائلات الجنود، وضمان مقاعد جامعية للأبناء.

تجاوز القيود التقليدية للتجنيد

تبرز نقطة أخرى مثيرة للانتباه، وهي أن القيود التقليدية المتعلقة بالتجنيد قد تم تخفيفها بشكل كبير. لم تعد السوابق الجنائية أو الأمراض، وحتى فيروس نقص المناعة البشرية، تشكل حواجز تلقائية أمام الانضمام إلى الجيش. هذا التوجه يعكس يأس موسكو في تأمين العدد الكافي من الجنود، واستعدادها لتقبل أي يد عاملة قادرة على القتال. وهذا ما جعل الجبهة خياراً أخيراً للعمل بالنسبة لمن لا يملكون الكثير ليخسروه، كما أشارت “بوليتيكو”.

شبكة التجنيد الإقليمية ودورها في دعم القتال

عملية التجنيد الروسية لا تتم بشكل مركزي، بل من خلال شبكة واسعة من أكثر من 80 حكومة إقليمية. تعمل هذه الحكومات كمراكز توظيف، حيث تعلن عن الوظائف، وتفحص المتقدمين، وترافقهم خلال إجراءات التسجيل العسكري، ثم تحصل على عمولات مقابل ذلك. هذا التنافس بين الأقاليم في جذب المجندين يعزز من فعالية العملية، ويساهم في زيادة عدد المنضمين إلى القوات المسلحة.

قلق الغرب ومتابعة استراتيجية التجنيد الروسية

لا تخفى على العواصم الغربية هذه التحولات في استراتيجية التجنيد الروسية. تصاعد القلق من قدرة موسكو على الاستمرار في الحرب وتعويض خسائرها البشرية، على الرغم من فقدان ما يقرب من مليون جندي بين قتيل وجريح منذ عام 2022. ويعتبر الغرب الآن استمرار التجنيد عنصراً أساسياً لفهم موقف موسكو في المفاوضات السلمية وإمكانية التوسع في المستقبل.

ويقول مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية السابق ديفيد بترايوس إن قدرة بوتين على تمويل مكافآت التجنيد الضخمة وتعويضات الوفاة، وتأمين القوى البشرية اللازمة، سيمكن روسيا من مواصلة حملة مكلفة وشاقة.

قصص من قلب التجنيد الروسي: أزمة أم فرصة؟

تقدم “بوليتيكو” شهادات حية تعكس دوافع الروسيين للانضمام إلى الجيش. حالة الزوجين أولجا وألكسندر، اللذين حولا مكتب توظيف صغير إلى وكالة متخصصة في تجنيد الجنود، تبرز كيف أصبحت الحرب فرصة عمل مربحة للبعض. يبدأ كل شيء بإعلان بسيط على موقع “أفيتو”، وينتهي بتجنيد عشرة أشخاص، بمساعدة من المسؤولين الإقليميين.

أما “أنطون”، فهو يمثل وجهاً آخر للقصة. لم ينضم إلى الجيش إيماناً بالحرب، بل بسبب أزمة مالية خانقة. بينما كان مهدداً بالسجن بسبب الديون، وجد في عرض التجنيد فرصة لتجنب العقوبة وتحسين وضعه المادي. راتبه الجديد يبلغ 2650 دولاراً شهرياً، بالإضافة إلى مكافأة توقيع قدرها 2460 دولاراً، وهو ما يمثل ثروة حقيقية بالنسبة لرجل كان يعيش على الكفاف.

المكافآت والوسام: طريق نحو البقاء

يشير أنطون إلى أن الدوافع ليست وطنية، بل مادية بحتة. “لا يوجد خطاب وطني هنا.. الجميع يريد فقط العودة إلى المنزل.” لكنه يضيف أن الحصول على وسام الدولة يمثل فرصة لمسح السجل الجنائي، أي “إما أن تموت أو تكسب ميدالية”.

استراتيجية التعبئة الروسية.. تطور مستمر

مع تحول الغزو المفترض إلى حرب استنزاف طويلة، أعادت روسيا تصميم استراتيجيتها في مجال التعبئة. فبعد إعلان “التعبئة الجزئية” في سبتمبر 2022، والتي أثارت غضباً شعبياً وهجرة جماعية، فتحت الدولة أبواب السجون أمام المعارك، وجذبت السجناء بوعود العفو والأجور المجزية.

هذه الاستراتيجية، القائمة على “قليل من الإكراه والكثير من المال”، أثبتت فعاليتها في تعويض الخسائر البشرية. في سبتمبر 2024، صدّق بوتين رسمياً على رفع عدد أفراد القوات المسلحة إلى 1.5 مليون جندي. والآن، تتجه موسكو نحو توفير حوافز مالية ومزايا أخرى، بدلاً من الاعتماد على الاستدعاءات القسرية.

استقطاب المجندين عبر “تليجرام” والتركيز على الفئات الهشة

تعتبر شبكة “تليجرام” منصة رئيسية لعمليات الاستقطاب. تنتشر فيها قنوات مخصصة للتوظيف العسكري، تنشر عشرات الإعلانات يومياً، تعرض وظائف مختلفة، مع تفاصيل حول المكافآت والمزايا. و تتنافس المناطق المختلفة لتقديم أغلى المكافآت لجذب المجندين.

وتركز هذه العمليات على الفئات الأكثر هشاشة اجتماعياً: السجناء، والعمال المهاجرين، والمثقلين بالديون. وتقول الباحثة السياسية إيكاترينا شولمان إن هذه الإجراءات تستهدف “الرجال الأكثر هشاشة اجتماعياً.. المثقلين بالديون والسجناء والذين لا يتمتعون بالثقافة المالية.”

تكاليف التجنيد وتأثيرها على الميزانية الإقليمية

تكلّف هذه الاستراتيجية الروسية مبالغ طائلة. فقد خصصت بعض المناطق ملايين الدولارات لعمولات المجندين، وهو ما ينعكس سلباً على الإنفاق على الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم. ورغم ذلك، يرى المحلل الاقتصادي يانيس كلوج أن البرنامج “يعمل جيداً، لكنه أصبح أكثر كلفة للكرملين”.

قوة بشرية مستدامة.. هل تغير ميزان القوى؟

تنجح هذه الآلية في جلب نحو 30 ألف متطوع شهرياً إلى الجيش الروسي، ما يُمكِّن موسكو من تعويض الخسائر البشرية الفادحة والاستمرار في الحرب. بالنظر إلى أن روسيا فقدت ما يقرب من مليون جندي منذ عام 2022، فإن هذه القدرة على التجديد تعتبر ذات أهمية استراتيجية كبيرة.

ويخلص التقرير إلى أن هذه الاستراتيجية تساهم في استمرار التمسك بشروط بوتين، سواء عبر الدبلوماسية أو حرب الاستنزاف. فالقوة البشرية المستدامة تمنح روسيا القدرة على الاستمرار في القتال، حتى وإن تطلب الأمر سنوات إضافية. إن فهم هذه الديناميكيات الجديدة أمر بالغ الأهمية بالنسبة للغرب، من أجل تقييم التحديات والفرص المتاحة في هذا الصراع المستمر. ويتضح أن التجنيد أصبح عنصراً حاسماً في المعادلة، يؤثر بشكل كبير على مسار الحرب ومستقبل العلاقات الدولية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى