اخر الاخبار

قراءة في رسائل عمّان إلى لندن قبل غزو العراق

في الأسابيع التي سبقت غزو العراق عام 2003، كانت المنطقة على أعتاب تحول تاريخي. لم يكن الغزو مجرد حدث عسكري، بل لحظة كسر عميقة في بنية الإقليم، وفي طريقة تعامل الغرب مع الشرق الأوسط. الوثائق البريطانية التي أُفرج عنها مؤخرًا، وخاصة تلك المتعلقة بالتواصل السياسي مع عمّان، تلقي ضوءًا نادرًا على هذه اللحظة من داخل غرف صنع القرار، وليس فقط من خلال نتائجها اللاحقة. هذه الوثائق تكشف عن تعقيدات الدبلوماسية، ومحاولات احتواء الأزمة، وتوقعات الأطراف المعنية، مما يجعلها مادة تحليلية قيمة لفهم السياق الإقليمي لـ غزو العراق 2003.

طبيعة الوثائق البريطانية: نافذة على عقل الدولة

لا تُقرأ هذه الوثائق ببساطة على أنها محاضر اجتماعات أو سجلات تقنية. بل هي أقرب إلى خريطة ذهنية لكيفية تفكير دولة كبرى وهي تستعد للحرب، وكيف تنظر إلى ردود أفعال الدول الإقليمية. جزء كبير من هذه الملفات عبارة عن أوراق تحضيرية أعدها مكتب رئيس الوزراء البريطاني قبل اللقاءات مع الملك عبدالله الثاني. هذه الأوراق، التي كتبها جوناثان باول، السكرتير الخاص ورئيس الديوان السياسي لرئيس الوزراء، لا تسجل ما قيل، بل ما كان متوقعًا أن يُقال، وما كان رئيس الوزراء بحاجة إلى الاستعداد لسماعه.

هذا ليس مجرد تفصيل تقني، بل جانب سياسي بالغ الأهمية. فهو يوضح أن لندن كانت تدرك أن مواقف حلفائها الإقليميين قد لا تتطابق تمامًا مع المسار العسكري الذي كانت تسلكه. وبالتالي، فإن إدارة هذا التباين تتطلب استعدادًا مسبقًا وتقييمًا لسيناريوهات متعددة، بعضها لم يتحول في النهاية إلى سياسة رسمية.

محاولات أردنية لتقليل الكلفة: المنفى كحل سياسي

في إحدى الوثائق، ورد توصيف مباشر للتوقعات حول الحديث الأردني، حيث أشير إلى أن الملك عبدالله الثاني من المرجح أن يثير ملف العراق، ويبحث عن مخرج سياسي لتجنب الحرب. وكتب معد الوثيقة: “The King is likely to want to discuss Iraq, including the possibility of offering Saddam exile as a way of avoiding war”. (من المرجح أن يرغب الملك في مناقشة العراق، بما في ذلك احتمال عرض المنفى على صدام كوسيلة لتفادي الحرب).

هذا الاقتباس يكشف عن إدراك بريطاني مسبق للمقاربة الأردنية، وهي مقاربة لا تتحدى ميزان القوى بشكل مباشر، ولكنها تسعى لإعادة إدخال البُعد السياسي في لحظة كانت تتجه نحو الانغلاق العسكري. وهذا يعكس فهمًا أردنيًا عميقًا لمحدودية التأثير، مع عدم التخلي عن واجب المحاولة. الأردن، على الرغم من إدراكه للواقع، كان يحاول استكشاف أي سبيل لتجنب كارثة إقليمية.

التوقعات والتحليلات: قلق بريطاني من “اليوم التالي”

تتجاوز الوثائق مجرد التوقعات لتشمل تحليلات شخصية، باستخدام لغة ذهنية وليست تقريرية. فقد كتب معد الوثيقة: “He may also have a hankering for a Hashemite role in post-Saddam Iraq”. (وقد يكون لديه أيضاً ميل أو اهتمام بدور هاشمي في عراق ما بعد صدام).

هذا يعكس طبيعة التفكير داخل الدوائر البريطانية. فهو ليس نقلًا لقول أو استنادًا إلى موقف معلن، بل قراءة لاحتمال، وتحديدًا انشغال لندن المبكر بسؤال ما بعد صدام. كان القلق الأكبر يتعلق بالفراغ السياسي الذي سيتركه سقوط النظام، وهو ما يكشف عن قلق بنيوي بشأن “اليوم التالي” للحرب، أكثر من أي شيء آخر.

هذا القلق يتجلى بشكل أوضح في قسم “نقاط الحديث”، حيث تم إدراج فكرة الدور الهاشمي تحت بند مشروط: “On Hashemite revival (if raised)”. (في حال طُرحت مسألة إحياء دور هاشمي). وجود عبارة “إذا طُرحت” ليس مجرد تفصيل لغوي، بل هو مفتاح لقراءة الوثيقة، يؤكد أن الفكرة ليست جزءًا من النقاش المتوقع، بل احتمال افتراضي تم إدراجه احتياطًا، مع توجيه لبلير بتجنب هذا المسار.

الحوار المباشر: إصرار أردني على الحل السياسي

عند الانتقال من الوثائق التحضيرية إلى ملخص الاجتماع الرسمي بين توني بلير والملك عبدالله الثاني، تتغير النبرة بشكل ملحوظ. هنا، تختفي التوقعات والتحليلات، ويظهر ما قيل بالفعل. ويبرز في ملخص الاجتماع المؤرخ في 26 فبراير 2003، إصرار أردني واضح على البحث عن حل سياسي حتى اللحظة الأخيرة.

سجلت الوثيقة أن الملك طرح خيار عرض المنفى على صدام حسين كوسيلة لتجنب الحرب، ونقلت العبارة التالية: “If Saddam accepted exile, there would be no need to fire a single shot”. (إذا قبل صدام بالمنفى، فلن تكون هناك حاجة لإطلاق رصاصة واحدة). هذا الاقتباس لا يعكس مجرد تفصيل تكتيكي، بل يلخص فلسفة كاملة في التعامل مع الأزمة، وهي فلسفة ترى أن تجنب الحرب هو هدف بحد ذاته، وأن السياسة، حتى وهي ضعيفة، تظل أقل تكلفة من القوة.

العراق في سياقه الإقليمي: الربط بالقضية الفلسطينية

ما يلفت الانتباه في ملخص الاجتماع أيضًا هو أن العراق لم يُناقش بمعزل عن السياق الإقليمي الأوسع. سجلت الوثيقة ربطًا مباشرًا بين الحرب المحتملة على العراق والقضية الفلسطينية، حيث حذر الملك من التداعيات الخطيرة لأي صراع جديد على القضية الفلسطينية والاستقرار الإقليمي: “Any new conflict in the region would have serious repercussions on the Palestinian issue and wider regional stability”. (أي صراع جديد في المنطقة ستكون له تداعيات خطيرة على القضية الفلسطينية وعلى الاستقرار الإقليمي الأوسع).

هذا الربط يعكس ثباتًا في الخطاب الأردني، حيث أن العراق ليس معزولاً عن فلسطين، والحرب عليه لن تُقرأ على أنها عملية جراحية محدودة، بل حلقة جديدة في سلسلة أزمات تُدار بالقوة، بينما تُترك جذور الصراع دون معالجة. الأمن الإقليمي كان ولا يزال محور اهتمام الأردن.

الخلاصة: شهادة على لحظة حاسمة

قراءة هذه الوثائق البريطانية–الأردنية مجتمعة تكشف عن سردية متكاملة حول لحظة سياسية فاصلة. ليست هذه سردية بطولة أو فشل، بل سردية محاولة، محاولة لإبقاء السياسة حاضرة، وتقليل الكلفة، وتسجيل موقف أخلاقي في مواجهة قرار عسكري كان يتقدم بثبات. التحليل السياسي لهذه الوثائق يوضح مدى تعقيد العلاقات الدولية، وكيف يمكن للدول أن تسعى لتحقيق أهدافها المختلفة في ظل ظروف صعبة.

بعد مرور أكثر من عقدين، لا تعيد هذه الوثائق كتابة تاريخ غزو العراق 2003، ولكنها تذكرنا بأن ما سبق الحرب لم يكن صمتًا، بل حوارًا متوترًا، ورسائل متبادلة، وقلقًا عميقًا بشأن “اليوم التالي”. وتؤكد أن السياسة لا تختفي فجأة، بل تُدفع إلى الخلف تدريجيًا، حتى تصبح مجرد أثر في الأرشيف. هذه الوثائق هي شهادة على لحظة كان فيها البديل مطروحًا، حتى وإن لم يُكتب له النصر، وعلى الفارق العميق بين من رأى في القوة أداة حسم، ومن رأى في السياسة مسؤولية لا تسقط حتى في أحلك اللحظات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى