أوروبا عن انتقادات استراتيجية الأمن القومي الأميركي: واشنطن لا تزال أكبر الحلفاء

في خضم التطورات الجيوسياسية المتسارعة، أثارت استراتيجية الأمن القومي الأميركية الجديدة جدلاً واسعاً في أوروبا، بعدما تضمنت انتقادات حادة للقارة العجوز. ردت كايا كالاس، مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، مؤكدة على أهمية العلاقة مع واشنطن، لكنها لم تتجاهل بعض النقاط الصحيحة التي أثارتها الوثيقة. هذا المقال يتناول تفاصيل هذه الاستراتيجية، ردود الفعل الأوروبية، وتداعياتها المحتملة على مستقبل العلاقات عبر الأطلسي.
استراتيجية الأمن القومي الأميركية: نظرة جديدة على أوروبا
كشفت استراتيجية الأمن القومي الأميركية الجديدة، التي نشرها البيت الأبيض مؤخراً، عن تحول جذري في نظرة واشنطن إلى أوروبا. لم تعد القارة العجوز شريكاً استراتيجياً ثابتاً، بل أصبحت تُرى كعقبة محتملة أمام المصالح الأميركية. الوثيقة، التي تمتد لنحو 30 صفحة، تتهم أوروبا بالضعف، وتراجع الثقة بالنفس، وخطر “زوال الحضارة” بسبب التحديات الديموغرافية. كما وجهت اتهامات مبطنة لبعض الحكومات الأوروبية بـ “إسكات الأصوات الوطنية” و “التضييق على العمليات الديمقراطية”. هذه الانتقادات الحادة أثارت صدمة واسعة في العواصم الأوروبية.
انتقادات أميركية حادة: تفاصيل الاتهامات
تضمنت استراتيجية الأمن القومي الأميركية الجديدة اتهامات صريحة للقارة الأوروبية، حيث أشارت إلى أن أوروبا تواجه “تراجعاً ديموجرافياً خطيراً” و “قد تفقد يوماً مكانتها كحليف يعول عليه”. كما حذرت الوثيقة من أن استمرار تدفقات الهجرة قد يغير الأغلبية الديموغرافية في بعض دول الناتو خلال عقدين، مما يؤدي إلى “تآكل انتمائها الحضاري”. الأمر الأكثر إثارة للجدل هو الإشارة إلى دعم الأحزاب اليمينية الشعبوية والمعارضة للهجرة في أوروبا، وهو ما اعتبره محللون اعترافاً صريحاً بالتدخل السياسي الأميركي داخل القارة.
ردود الفعل الأوروبية: بين الاستياء والتأكيد على الشراكة
على الرغم من الصدمة التي أثارتها الوثيقة، حرصت القيادات الأوروبية على التأكيد على أهمية العلاقة مع الولايات المتحدة. قالت كايا كالاس، مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، خلال “منتدى الدوحة 2025” في قطر، إن “الولايات المتحدة لا تزال أكبر حليف لنا”، مع الاعتراف بوجود انتقادات صحيحة موجهة لأوروبا، خاصة فيما يتعلق بالاستهانة بقوتها أمام روسيا. لكن ردود الفعل لم تقتصر على ذلك، حيث أعرب وزير الخارجية الألماني، يوهان فاديفول، عن رفضه لـ “دروس من الخارج”، بينما تحدثت حكومات أخرى عن “انقطاع كامل” بين الرؤية الأميركية والأوروبية.
“وساطة أميركية” بين روسيا وأوروبا؟
أحد الجوانب الأكثر إثارة للدهشة في استراتيجية الأمن القومي الأميركية هو أنها تعرض الولايات المتحدة كـ “وسيط” بين أوروبا وروسيا، بدلاً من قيادة القوى الغربية في مواجهة موسكو. هذا التحول يمثل انقلاباً كاملاً على عقود من السياسة الأميركية التي اعتبرت روسيا الخطر الأكبر على الأمن الغربي. وتلوم الوثيقة الأوروبيين على “توقعات غير واقعية” في ما يتعلق بالحرب في أوكرانيا، وتتهمهم بـ “عرقلة جهود واشنطن” لإنهاء الحرب، مطالبة بـ “وقف سريع للأعمال القتالية”.
تداعيات الاستراتيجية وتأثيرها على العلاقات عبر الأطلسي
تثير هذه الاستراتيجية تساؤلات حول مستقبل العلاقات عبر الأطلسي. هل تشهد هذه العلاقة تحولاً جذرياً نحو مزيد من الانفصال؟ أم أن المصالح المشتركة ستدفع الطرفين إلى تجاوز الخلافات؟ يرى خبراء السياسة الخارجية أن إدارة ترمب لا تتبنى سياسة انعزالية، بل تسعى إلى “إعادة صياغة أوروبا نفسها بما يتماشى مع رؤيتها القومية والمحافظة”. وتقول الباحثة كاتيا بيجو من “تشاتام هاوس” إن واشنطن “لا تغادر أوروبا، لكنها تريد إعادة هندستها بالكامل”.
“مبدأ مونرو” الجديد: تركيز أميركي على النصف الغربي من الكرة الأرضية
بالتوازي مع إعادة تقييم العلاقة مع أوروبا، تركز استراتيجية الأمن القومي الأميركية على استعادة السيطرة الأميركية على النصف الغربي من الكرة الأرضية، في عودة صريحة لروح “مبدأ مونرو”. وتشير الوثيقة إلى نقل قوات وموارد من الشرق الأوسط ومناطق أخرى إلى الأميركيتين لمواجهة الهجرة والجريمة والتأثير المتزايد لقوى إقليمية أخرى. كما تقلل الوثيقة من الخطاب المتشدد ضد الصين، مركزة على “تصحيح العلاقات التجارية” وتجنب أي صدام عسكري.
في الختام، تمثل استراتيجية الأمن القومي الأميركية الجديدة نقطة تحول في العلاقات عبر الأطلسي. بينما تؤكد القيادات الأوروبية على أهمية الشراكة مع واشنطن، فإن الانتقادات الحادة الواردة في الوثيقة تثير تساؤلات حول مستقبل هذه العلاقة. من الواضح أن أوروبا تواجه تحديات كبيرة، ليس فقط في مواجهة التحديات الداخلية، بل أيضاً في إعادة تعريف دورها في النظام العالمي المتغير. يبقى أن نرى كيف ستتعامل أوروبا مع هذه التحديات، وكيف ستتطور العلاقات مع الولايات المتحدة في السنوات القادمة.












